الفارعة... حين يتكلم المكان - تليجراف الخليج

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: الفارعة... حين يتكلم المكان - تليجراف الخليج اليوم الاثنين الموافق 12 مايو 2025 09:45 صباحاً

بين تلك القرى التي تنام على حضن التلال، وتستيقظ على أنفاس النسيم المتسلل من شقوق الجبال، شقّت الفارعة طريقها من وادي حسبان، كأنها خيط نورٍ سلك دربه بهدوء، حتى استقرّ في مكانٍ لا يشبه سواه. لا هي مدينة تزدحم بأقدام العابرين، ولا قرية تنام في عزلة، بل مزيج فريد بين ذاكرة الأرض ونبض الروح.

الفارعة ليست مجرد اسم على خارطة، بل هي قصة حقيقية نُقشت في حجارة المنازل، وسُردت على مسامع الأطفال وهم يلعبون تحت شجر التين والرمان. هناك، حيث يُغنّي الندى على أوراق الزيتون، وتُصلّي السنابل قبل أن تُحصد، تشعر أن الزمن يتباطأ احترامًا لقدسية المكان.

وجهان لا يفترقان

الفارعة، كما وصفها من عرفها، ذات وجهين لا يتخاصمان:

وجهٌ قديم، يحمل في تفاصيله صوت الأذان الأول، وهمسات الجدّات وهنّ يُعلّمن الحروف الأولى لأحفادهنّ، وجلسات المساء حين كانت الحكاية تُروى على ضوء قنديل.

ووجهٌ حديث، يعرف الحاضر ويتنفسه، لكنه لا يُفرّط في الماضي، ولا يسمح له أن يُمحى.

ثمة شيء في الفارعة يشبه المقامات. ليس فقط لأنها تحتضن مواقع يُقال إن الصالحين مرّوا بها، أو لأنها تضمّ مساجد طينية يعود تاريخها إلى عقود سحيقة، بل لأنها تبعث شعورًا بأنك إن وقفت فيها، فأنت تقف في حضرة شيء أكبر منك.

كأن الأرض نفسها هناك تتنفس، وتُنصت، وتُبصر. كأن الحجارة تحفظ الأسماء، وتحمل في طياتها بقايا دعاء ما زال يتردد في الأفق. المكان يُصلي، حتى وإن سكت الناس. والماء حين ينساب من نبع العين، يُشبه التلاوة الهادئة لآيات لم تُمحَ من ذاكرة التراب.

ذاكرة لا تموت

في الفارعة، كل شيء يحتفظ بذاكرته. الطريق الضيّق يعرف أقدام الأطفال الذين مشوا عليه قبل أربعين عامًا، والجدار القديم يحتفظ بآثار الكفوف الصغيرة التي كانت تُمسكه في طريقها للمدرسة. والهواء، ذاك الهواء الذي تتنفسه الآن، سبق أن استنشقه من جلسوا في المكان نفسه، وتركوا في تنفسهم أثرًا لا يُرى لكنه يُشعر.

حتى الشجر هناك له ذاكرة. التين يثمر في موعده كأنه يفي بوعد قديم، والزيتون لا ينسى موعد القطاف، كأن الزمن يدور بساعة داخلية لا يضبطها إلا المكان ذاته.

ربما تذكّرك أنك لست في مكانٍ عابر، بل في حضرة تاريخ، وروح، وربما أثر قد يُغيرك.

من يأتِ إلى الفارعة بنيّة صافية، يجد فيها ما لا يُقال

لكن الفارعة، كما هي عادتها، لا تتوقف عند حدود الماضي ولا تُغلق أبوابها في وجه المستقبل. بين الحجارة المتناثرة، وبين الزهور التي تزهر في كل ربيع، هناك دائمًا مكان للحلم. المكان الذي ينتمي إلى الأرض والتاريخ، لكنه يمتد ليشمل الوعي والإنسان. إنها ليست مجرد قرية عابرة، بل هي مكان يحتضن الأمل، ويعدُّ بآفاق جديدة على الرغم من غياب الحياة الحديثة التي قد تبتعد عنه. الفارعة لا تكتفي بحمل تاريخها، بل تفتح أذرعها للمستقبل؛ للمبادرات التي يمكن أن تعيد إليها الحياة، وللجيل الجديد الذي قد يخطّ طريقه في هذه الأرض الغنية بالتراث.

إن الفارعة بحاجة إلى من يعيد إليها صوت الشباب، إلى من يزرع في شوارعها مزيدًا من الحياة، إلى من يزرع فيها الأشجار الطيبة التي تظلّ تؤتي ثمارها لأجيال قادمة. أما عن التاريخ، فلن ينسى أهلها أبدًا ما كان، بل سيظلّ يقودهم نحو عالم جديد حيث لا يتناقض الماضي مع المستقبل، بل يتحدّان معًا في مسيرةٍ واحدة.

إنه من واجبنا جميعًا، نحن أبناء الأرض وأبناء الزمان، أن نلتفت إلى هذا المكان الجميل، وأن نبني عليه حُلمًا مستدامًا، لا يعكر صفوه الزمن ولا يختفي في ظل الانشغالات اليومية. الفارعة أكثر من مجرد ذكرى، هي أملٌ في الحاضر والمستقبل، وقِبلةٌ لكل من يريد أن يعيد إلى الأرض ما فقده من السلام الداخلي والمودّة.

ومن هنا، ننطلق نحو الأفق، حيث تبقى الفارعة دائمًا في قلب من مرّوا من هنا، أولئك الذين تركوا قلوبهم معلّقة في السماء.

خلود العفيشات .


نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.