نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: شوك حنّا: النبتة التي لا تموت - تليجراف الخليج اليوم الاثنين الموافق 2 يونيو 2025 01:01 مساءً
مرت سنوات منذ أن رأت شجرة "شوك حنّا" للمرة الأخيرة، تلك التي كانت تجرح يدها بلطف، ثم تمنحها رائحة الحنّاء كما لو كانت تُعمّدها بقوة في وجه الحياة القاسية.
في ذلك الصباح، استيقظت على صوت داخلي هادئ يدعوها للعودة، كأن الأرض تهمس بأسرارها القديمة.
هل ما زالت هناك؟
هل بقي من الشجرة شيء؟
أم أن الأرض طوتها كما طوت طفولتها وأحلامها الأولى، تاركة خلفها فراغًا لا يُرى؟
جلست تحت تلك الصخرة القديمة التي كانت تشبه بيضة العقاب، إلا أنها لم تدرك أن الصخرة قد رحلت، متكسرة إلى فتات تحت وطأة الزمن، لتحل مكانها جدران المباني والأرصفة، وبيوت عالية يقيم فيها غرباء ليسوا من طين بلادها ولا من عبير هوائها.
تغيّر الجبل، لم يعد كما كان، والصمت لم يعد صمتًا، بل صار صدىً مترددًا لأصوات غريبة لا تشبه الهدوء الذي كان يملأ المكان ذات يوم، ذاك الهدوء الذي كانت تعرفه منذ سنوات مضت، منذ زمن كانت فيه الحياة أبسط وأعمق.
كانت خطواتها ثقيلة، مثقلة بالتعب، لم تعد قدماها تخترقان الأرض بخفة كما في السابق؛ كانت تمشي وكأنها تطوف فوق الأرض، يرفرف قلبها كطائر مكسور الجناح، والتراب يتطاير خلفها كأنما يحكي حكايات الماضي.
رأت نفسها تحلق بلا أجنحة، وكان الهواء البارد يلهب خديها، وفي داخلها دفء غريب، دفء الهروب من برد العطف المفقود، من الحنان الذي صار ذكرى بعيدة.
كان الهواء البارد يحمل في ثناياه دفء قلبها الذي اعتاد أن يتحمل الوحدة، أن يظل صامدًا وسط عالمٍ قاسٍ، في وجوه لا تراها ولا تعرفها.
في عينيها لهفة، وفي قلبها رجفة، ومع كل خطوة تسترجع صور الشجرة: شوكها، رائحتها، الدم الذي نزف من يدها ليمنحها إيمانًا بالحياة رغم الألم.
وقفت في المكان الذي ظنّت أنها زرعته بحنينها، لكنها وجدت فقط حفنة تراب يابس، وريح تعصف بأوراق ذاكرتها، تهمس بأصوات الماضي.
انخفضت على ركبتيها، وأغرقتها أناملها في التراب، كأنها تبحث في عمق الأرض عن جذور حلم دفنته الحياة وأخفته أقدام الغربة.
وفجأة…
لمحت شيئًا صغيرًا، نبتة خضراء لا تزال تتلوّى في أولها، وعلى طرف ورقتها شوكة وحيدة.
لكن رائحتها؟
نعم… كانت رائحة الحنّا، تلك الرائحة التي حملت معها عبق الطفولة، وذاكرة الأرض.
ابتسمت لأول مرة منذ زمن بعيد، وقالت في سرّها:
"شوك حنّا لم يمت… هو فقط كان ينتظرني لأعود إليه."
وقبل أن تنهض من على ركبتيها، سمعت وقع خطوات خفيفة تقترب من خلفها.
تجمدت، ظنّت أن الريح تخدعها، لكن الخطوات كانت حقيقية، منتظمة، كأنها تعرف الطريق جيدًا.
استدارت ببطء، فرأت رجلاً يشبه صورة حلمها القديم، لم تلحظ حضوره من قبل، رغم أن المكان مكشوف وسماءه صافية.
ابتسم لها بنعومة، ثم نظر إليها بعينيْن غريبتين تحكيان ألف حكاية.
قال بصوت هادئ عميق:
"أنتِ تأخرت، لكنني انتظرتك."
شهقت، ثم قالت وهي تبتلع ذهولها:
"من أنت؟ وكيف تعرفين؟"
ابتسم دون أن يجيب، ثم انحنى قليلًا نحو النبتة، ومد يده فوقها دون أن يمسها، وقال:
"كل من أحب الشوك ولم يلعنه… يعرف الحنّا."
ثم استدار ومشى في الطريق الذي لم يكن موجودًا قبل لحظة،
نادت عليه، لكنه لم يلتفت، واختفى بين طيّات الضباب، كأنه سراب من الماضي.
وفي عالم تغيّر حتى الجبل فيه فقد صمته، تظهر نبتة صغيرة تحمل شوكة واحدة ورائحة لا تموت، كأن الأرض نفسها تنبض من تحت الرماد.
ثم يظهر رجل من الضباب، يشبه الحلم، ويقول كلمات لا تُنسى:
"كل من أحب الشوك ولم يلعنه… يعرف الحنّا.
وبقيت وحدها، تنظر إلى النبتة الصغيرة، ثم إلى الأفق الذي لم يعد كما كان،
وكأنها لم تعد كما كانت.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.