نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: التهميش الوظيفي: مأساة المتصرفين في الإدارة المغربية - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء 10 يونيو 2025 12:07 صباحاً
المتصرفون في الإدارة العمومية المغربية يشكلون العمود الفقري الحقيقي الذي يحمل على عاتقه عبء التدبير اليومي للسياسات العمومية، سواء تعلق الأمر بتصميم البرامج أو تقييمها، أو بتدبير الموارد البشرية والمالية، أو حتى بضمان الاستمرارية المؤسساتية في ظل تعاقب الحكومات وتغير الوزراء. ومع ذلك، لا تزال هذه الفئة تعيش في ظل تهميش صارخ وممنهج، عنوانه الرئيسي هو التجاهل الوظيفي، والغبن المادي، والإقصاء من دوائر التأثير وصنع القرار.
حسب إحصائيات الوظيفة العمومية، فإن عدد المتصرفين يتجاوز 38 ألف متصرف موزعين على مختلف القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية، وهم بذلك يشكلون إحدى أكبر الفئات من حيث الحجم والتنوع في المهام. ورغم ذلك، لا تحظى هذه الفئة بأي امتيازات تُذكر مقارنة بفئات أخرى أقل عدداً وأكثر استفادة، سواء من حيث نظام الأجور أو الترقي أو حتى الاعتراف الرمزي. فبينما يحصل بعض الأطر التقنية أو الخاصة في قطاعات معينة على تحفيزات وامتيازات مالية تفوق أحياناً ضعف ما يتقاضاه المتصرف، يظل هذا الأخير حبيس شبكة أجرية مجحفة لم تعرف أي مراجعة حقيقية منذ سنوات، رغم ارتفاع تكلفة المعيشة وتفاقم أعباء الحياة اليومية.
أحد أهم أوجه التهميش يتجلى في المرسوم رقم 2.06.377 الصادر سنة 2010، والذي نظم هيئة المتصرفين المشتركة بين الوزارات، لكن دون أن يمنحها مكانة وظيفية مستقلة أو خصوصية مهنية تُمكّنها من فرض نفسها داخل الهياكل الإدارية. هذا المرسوم، عوض أن يُنصف المتصرفين، قزّم وضعيتهم وجعلهم مجرد كفاءات متعددة المهام يتم استعمالها دون حماية قانونية واضحة. أكثر من ذلك، فإن التنقل بين الدرجات والمسالك المهنية يخضع لمنطق بيروقراطي ثقيل، يجعل الترقية مسألة حظ أكثر منها استحقاق وكفاءة. وهنا تكمن المفارقة: كيف يعقل أن تُسند المهام الكبرى والمسؤوليات الدقيقة إلى فئة يتم تجاهلها في الترقية والتمكين؟
في سنة 2023، أصدر المجلس الأعلى للحسابات تقريراً لفت فيه إلى ضعف نجاعة التدبير الإداري في عدد من القطاعات العمومية، وأشار ضمنياً إلى أن غياب الكفاءات في مراكز القرار يشكل أحد أسباب تعثر الأداء. المفارقة أن هذه الكفاءات موجودة بالفعل، متمثلة في آلاف المتصرفين، لكن تم إقصاؤها لاعتبارات سياسية أو زبونية، فيما يتم تفضيل تعيينات خارجية أو من داخل "النخب الإدارية" التي تُعاد إنتاجها بآليات غير شفافة. ويتم ذلك في تجاهل صارخ لمبدأ المساواة في الفرص وتكافؤ الحظوظ الذي تنص عليه مختلف القوانين المنظمة للوظيفة العمومية.
واقع التكوين المستمر لا يقل سوءاً. فالمتصرفون غالباً ما يُتركون لمصيرهم المهني دون برامج حقيقية لتطوير الكفاءات أو للتكيف مع التحولات الرقمية والمؤسساتية. عدد كبير من التقارير، منها تقرير صادر عن وزارة الانتقال الرقمي سنة 2022، أكدت أن ضعف التكوين داخل الإدارة العمومية يشكل حاجزاً أمام تحديث الدولة، ومع ذلك لا يتم تخصيص اعتمادات كافية لتأهيل هذه الفئة، ما يجعلها في وضعية غير عادلة: مطالبة بالتأقلم مع الجديد دون أن تُمنح الأدوات الكفيلة بذلك.
من جهة أخرى، فإن السياسة الحكومية في ما يخص التوظيف والتدبير تُمعن في تكريس هذا الوضع. فحتى في لحظات الحديث عن إصلاح الإدارة، نادراً ما يتم إدراج ملف المتصرفين ضمن الأولويات، وكأن هذه الفئة غير موجودة أو غير معنية بمشاريع التحديث. والمقلق أن بعض النقابات، التي من المفترض أن تُدافع عن هذه الفئة، باتت تتواطأ في هذا الصمت، مفضلة التركيز على ملفات أخرى أكثر "ربحية" من الناحية السياسية أو التفاوضية.
النتيجة الطبيعية لهذا التراكم من الإقصاء والتهميش هي الإحباط الجماعي الذي بدأ يتسرب إلى هذه الفئة، مهدداً بتقويض توازن الإدارة العمومية من الداخل. فكيف يمكن الحديث عن نجاعة وتحديث في غياب رؤية منصفة تُعيد الاعتبار للعقول التي تُدبّر دواليب الدولة يومياً؟ وهل من المقبول أن تُركن كفاءات بهذه الأهمية في الزوايا المظلمة للإدارة، في الوقت الذي تنادي فيه الدولة بخطابات رسمية بضرورة الكفاءة وربط المسؤولية بالمحاسبة
إن الوقت قد حان لرد الاعتبار لهؤلاء المتصرفين، لا عبر خطابات التعاطف، بل من خلال إجراءات ملموسة وشجاعة تعيد الاعتبار إلى مكانتهم الوظيفية، وتفتح أمامهم آفاقاً حقيقية للمشاركة في صياغة السياسات العمومية وتدبيرها. فالإدارة المغربية لا تحتاج فقط إلى هندسة قانونية جديدة، بل إلى عدالة مهنية تبدأ من الاعتراف بمن هم في قلبها: المتصرفون.