د.بني هاني يكتب عن :اقتصاديات لعنة الموارد والديون الخارجية #عاجل - تليجراف الخليج

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: د.بني هاني يكتب عن :اقتصاديات لعنة الموارد والديون الخارجية #عاجل - تليجراف الخليج اليوم السبت الموافق 12 يوليو 2025 04:23 مساءً

كتب أ.د  عبدالرزاق بني هاني

لابد من مقدمة أضعها بين يدي القارئ الكريم عما نسميه في علم الاقتصاد المتقدم لعنة الموارد (Resource Curse) والدولة الريعية (Rentier State).

الاقتصاد الذي يعاني من معدلات بطالة مرتفعة، وإنتاجية منخفضة، وفساد مستشرٍ إلى حدٍ ما، وفقر واسع الانتشار، وفي الوقت ذاته يمتلك موارد طبيعية وفيرة، ورأس مال بشري عالي المستوى، يُمثل مفارقة صارخة ومحبطة. هذا الوضع، الذي يُطلق عليه غالباً لعنة الموارد أو مفارقة الوفرة ، هو سمة للدولة الريعية. لأن الدولة الريعية تستمد جزءاً كبيراً من إيراداتها الوطنية من ريع خارجي - في هذه الحالة، بيع الموارد الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن والمساعدات والقروض الخارجية - بدلاً من الإنتاج المحلي والضرائب المعقولة. وفي حالات أخرى يعتمد الاقتصاد على المساعدات الخارجية التي لا تأتي من غير ثمنٍ سياسي باهظ، وقروض خارجية موجهة نحو مجالات الإنفاق العام، وليس نحو الاستثمار في البنيى التحتية، إلا النزر اليسير منه. وهذا الدخل غير المكتسب يُشوه بشكل أساسي النسيج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للدولة، ما يخلق شبكة معقدة من الخلل الوظيفي، على الرغم من مظهر الاستقرار الشكلي جداً.

 

تبعات الحلقة المفرغة للاقتصاد الريعي، المُعتمد على الريع والمُساعدات والديون الخارجية:

أولاً) انخفاض الإنتاجية وارتفاع البطالة (المرض الهولندي): يؤدي تدفق العملة الأجنبية من مبيعات الموارد، والمساعدات والقروض الأجنبية، إلى تقوية العملة الوطنية. وهذا يجعل القطاعات الأخرى في الاقتصاد، كالزراعة والصناعة، غير قادرة على المنافسة في السوق العالمية، حيث تصبح صادراتها أكثر كلفة. وفي الوقت نفسه، تغمر الواردات الأرخص السوق المحلية، ما يزيد من حالة شلل الصناعات المحلية. فتكون النتيجة؛ قطاع خاص ضعيف وفارغ، يؤدي إلى تفاقم مشكلة ندرة الوظائف المُنتجة، وارتفاع معدلات البطالة والعمالة الماهرة. وغالباً ما تصبح الحكومة، التي تغمرها أموال الموارد والقروض والمساعدات الأجنبية، الموظِّف الأخير، صانعاً لقطاعٍ عام مُتضخم، وغير فعال حيث تتفوق المحسوبية على الإنتاجية.

ثانياً) الاقتصاد الريعي والفساد المستشري: عندما تتركز الثروة في مصدر واحد يَسهل الاستيلاء عليه (صادرات الموارد الطبيعية، وتوجيه الديون حسب هوى النفس)، فإن ذلك يعزز ثقافة السعي وراء الريع بدلاً من خلق القيمة. فتتنافس النخب السياسية والاقتصادية للسيطرة على توزيع هذه الإيرادات، ما يؤدي إلى فساد منهجي. فتُمنح العقود الحكومية بناءً على العلاقات، وتُباع التراخيص لمن يدفع أكثر، وتُختلس الأموال العامة مع الإفلات من العقاب. وهذا يخلق بيئة تُخنق فيها ريادة الأعمال والابتكار، حيث لا يعتمد النجاح على المنافسة في السوق بل على المحاباة السياسية.

ثالثاً) الفقر المرتفع ونظام التعليم متدني المستوى: نادراً ما تصل الثروة الهائلة الناتجة عن الموارد الطبيعية والديون المتراكمة إلى عامة السكان. وبدلاً من ذلك، تتركز في أيدي نخبة صغيرة، ما يؤدي إلى مستويات قصوى من عدم المساواة في الدخل والفقر. وفي حين قد تمتلك الدولة الأموال للاستثمار في الخدمات العامة، فإن الفساد المستشري وانعدام المساءلة يعنيان أن المدارس والمستشفيات غالبًا ما تعاني من نقص التمويل وسوء الإدارة. والنظام التعليمي، على الرغم من أنه قد ينتج عددًا كبيرًا من الخريجين، وهو رأسُ مالٍ بشري مرتفع على الورق، يعاني من أزمة جودة. فهو يُركز عادةً على الحفظ عن ظهر قلب بدلاً من التفكير النقدي والمهارات العملية. هذا النظام التعليمي متدني المستوى يفشل في تزويد غالبية شبابه بالمهارات اللازمة لاقتصاد حديث ومتنوع، يؤدي إلى حبسهم في دائرة الفقر ويديم اعتماد الدولة على قطاع الموارد المتقلب، والديون الخارجية، ذات الثمن السياسي الباهظ. وغالباً ما يكون رأس المال البشري المرتفع وهماً إحصائياً، يُمثل نخبة صغيرة متعلمة في دول متقدمة، بينما تظل غالبية السكان محرومة من التعليم ذي الجودة العالية، ومحرومة من الخدمات الجيدة. والكثير من المواطنين المهرة والمتعلمين حقاً، المحبطين من نقص الفرص والفساد المستشري، يهاجرون، ما يؤدي إلى نضوب كبير في الأدمغة.

 

هناك خارطة طريق عملية لتحقيق الرخاء المستدام، بشيء من المثابرة والإرادة الوطنية الحرة والصبر:

يتطلب كسر حلقة لعنة الموارد والديون الخارجية نهجاً مُنسقاً، ومتعدد الأوجه يعالج في وقت واحد الاختلالات الاقتصادية، والإخفاقات في الحوكمة، وتنمية رأس المال البشري، لكنه يحتاج إلى إرادة وطنية حرة. وفيما يلي حلول عملية وقابلة للتنفيذ:

 

1) الانضباط المالي والاقتصادي الكلي:

التوجه نحو إنشاء صندوق ثروة سيادي شفاف ومستقل، بشكل تدريجي، يعتمد على الادخارات الوطنية، مهما كانت ضئيلة: يعد وجود صندوق ثروة سيادي مُدار بشكل احترافي، على غرار النماذج الناجحة كصندوق النرويج، أمراً بالغ الأهمية. ويجب أن تكون ولايته ثلاثية:

الادخار للأجيال القادمة: لابد من استثمار جزء كبير من عائدات الموارد الطبيعية المُصدّرة لبناء محفظة متنوعة لما بعد نضوب الموارد، وربما امتناع الدول عن إقراضنا ومُساعدتنا مالياً.

تعقيم الإيرادات: يعمل استثمار الإيرادات في الخارج، بشكل تدريجي، على منع إغراق للاقتصاد الوطني بكثرة الإنفاق الاستهلاكي، ويُقلل من أثر المرض الهولندي ولعنة الديون الخارجية.

تحقيق استقرار الموازنة: السماح للحكومة بسحب نسبة صغيرة وثابتة فقط، من قيمة الصندوق سنوياً. وهذا يفصل الإنفاق الحكومي عن أسعار السلع المتقلبة ويفرض الانضباط المالي.

تطوير نظام ضريبي واسع القاعدة وتصاعدي: تحويل اعتماد الحكومة من ريع الموارد، والديون والمُساعدات، إلى الضرائب المحلية (ضريبة الدخل، ضريبة الشركات، وضريبة القيمة المضافة). وهذه الآلية لا توفر فقط مصدر إيرادات أكثر استقراراً، بل الأهم من ذلك، أنها تجعل من المساءلة بين الدولة ومواطنيها شيئاً مهماً وضرورياً. فعندما يدفع الناس الضرائب، يطالبون بخدمات وحوكمة أفضل.

 

2) إصلاحات جذرية في الحوكمة ومكافحة الفساد:

الشفافية الكاملة في قطاع الصناعات الاستخراجية: فرض الكشف العلني عن جميع العقود والمدفوعات ومعلومات الملكية النفعية للشركات العاملة في قطاع الموارد.

تمكين المؤسسات المستقلة: تفعيل هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، لتتمتع بصلاحيات التحقيق والمقاضاة، وحماية القضاء من التدخل السياسي، وإصلاح الخدمة المدنية على أساس الجدارة بدلاً من المحسوبية. ويمكن لتطبيق الحوكمة الإلكترونية للخدمات العامة أن يقلل من فرص الرشوة.

حماية حقوق الملكية: يُعتبر وجود إطار قانوني قوي ومحايد يحمي حقوق الملكية أمراً ضرورياً لمنح المستثمرين المحليين والدوليين الثقة لبناء أعمال تجارية في القطاعات غير الريعية.

 

3) تفعيل رأس المال البشري وتنويع الاقتصاد:

ليشمل إصلاحاً شاملاً للنظام التعليمي يركز على المجالات الآتية:

إصلاح المناهج الدراسية: التحول من الحفظ عن ظهر قلب إلى مناهج تعزز التفكير النقدي وحل المشكلات ومحو الأمية الرقمية وريادة الأعمال.

الاستثمار في التدريب المهني والتقني: إنشاء برامج تدريب مهني وتقني عالية الجودة، بالشراكة مع القطاع الخاص لتطوير المهارات في المجالات ذات الطلب المرتفع مثل تكنولوجيا الطاقة المتجددة والزراعة المتقدمة وتكنولوجيا المعلومات.

رفع معايير المعلمين: زيادة الاستثمار بشكل كبير في تدريب المعلمين ورواتبهم وتطويرهم المهني.

تعزيز بيئة داعمة للأعمال لتشمل:

تقليل الروتين (البيروقراطية): تبسيط الإجراءات اللازمة لبدء وتشغيل الأعمال التجارية بشكل جذري.

تعزيز الوصول إلى التمويل: إنشاء برامج ضمان قروض مدعومة من الحكومة، وتعزيز وتطوير منظومة رأس المال الاستثماري لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة.

دعم استراتيجي للقطاعات الجديدة: تحديد ودعم القطاعات الناشئة غير الريعية من خلال حوافز مستهدفة ومحددة زمنياً بدلاً من الإعانات الدائمة. 

نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.