«شوكولاتة دبي».. برهان الهويات المتصالحة المتآلفة لا المتشظية المتصارعة - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: «شوكولاتة دبي».. برهان الهويات المتصالحة المتآلفة لا المتشظية المتصارعة - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء 20 مايو 2025 09:16 مساءً

العنود سعيد المهيري
يجتاح العالم حالياً هوسٌ عز نظيره بـ«سياسات الهوية»، وهي الأنشطة والنظريات السياسية التي تتمحور حول مظلومية وتهميش واضطهاد فئاتٍ معينةٍ من المجتمع، وتتشكل بحسب مظاهرٍ معينةٍ من هوياتهم، مثل جندرهم أو أعراقهم أو أديانهم أو إثنياتهم أو إعاقاتهم أو خلفياتهم الثقافية أو طبقاتهم الاقتصادية، أو حتى فئاتهم العمرية، فنجد «سياسات الهوية» تذود -مثلاً- عن الأقليات الدينية والعرقية والإثنية، والمهاجرين، وذوي الدخل المحدود، وأصحاب الهمم، وغيرهم من الفئات.

وتعنى «سياسات الهوية» كذلك بتقاطع هذه المظاهر المختلفة من الهوية مع بعضها بعضاً، مما يعرّض الأشخاص لأنظمةٍ متداخلةٍ ومعقدةٍ من التهميش والتمييز، ويضعهم ضمن مجموعات هوياتية بالغة التحديد، وشديدة الفرادة في تجاربها وتحدياتها، كأن يتقاطع جندر امرأةٍ -والنساء يعتبرن إحدى الفئات المضطهدة- مع كونها لاجئةً، ومعدمةً اقتصادياً، ومنتميةً إلى أقليةٍ إثنيةٍ، ومتقدمةً في العمر.

وبينما لا يمكن أن ننكر وجود التمييز والتفرقة والعنصرية بكافة أشكالها، فقد أصبحنا في عصر الهوس بتعريف الأشخاص عن أنفسهم وفقاً لهذه المجموعات الهوياتية الشاكية من الاضطهاد، وحشر أنفسهم في أكبر قدرٍ ممكنٍ من الهويات المتقاطعة منها، ليؤكدوا بالتالي تهميشهم واستهدافهم وانعدام العدالة الاجتماعية أمامهم.

تحوّل العالم إلى حلبة سباقٍ عريضةٍ من «أولمبياد المظلومية»، ومن سيتوّج بطلاً، ويتقلّد أعلى عددٍ من الميداليات الذهبية، هو من يتفوق في انطباق هذه الهويات المتداخلة عليه.

فعلى سبيل المثال، إن امرأةً أوروبيةً سوداء من أصحاب الهمم وُلدت لعائلةٍ مهاجرةٍ ومسلمةٍ، ومن طبقةٍ اقتصاديةٍ مسحوقةٍ، سوف تتقدم في السباق على نظيرتها الأوروبية السوداء من أصحاب الهمم التي وُلدت لعائلةٍ ثريةٍ، وكلتاهما سوف تتفوق على الأوروبية البيضاء من أصحاب الهمم، وهكذا.

ولأنها حمى مستعرة، فلم يعد من المستنكر، لا سيما في الغرب، أن ترسم «سياسات الهوية» للناس سلوكياتهم الاقتصادية أيضاً، فتؤثر على الكيفية التي ينفقون بها أموالهم، ومع من يتعاملون، وماذا يستهلكون، ومتى.

لنأخذ مثال «يلب»، وهو موقعٌ وتطبيقٌ أمريكي المنشأ لتقييم المطاعم والمتاجر والشركات والخدمات المتنقلة والخدمات الحكومية والحدائق ومناطق الجذب، وقد ذاع صيته حتى صار ينشط في 32 دولةً من حول العالم. بات «يلب» في السنوات المعدودة الماضية يتيح لأصحاب الأعمال في الولايات المتحدة خاصية تبيان فيما إذا كانوا ينتمون إلى إحدى المجموعات الهوياتية المهمشة والمضطهدة، كأن يكن نساءً، أو آسيويي الأصول، أو لاتينيي الأصول، وما شابه ذلك، فينالوا دعم المستهلكين ومساندتهم على افتراض أن هوياتهم لا بد أن تكون قد كبّدتهم التمييز والقهر والحرمان.

بل يتيح «يلب» للمستخدم نفسه البحث عن مقدمي الخدمات والشركات والمتاجر بناءً على هوية ملّاكها، وانتمائهم إلى إحدى المجموعات الهوياتية المظلومة، ليقرر التعامل معها دون سواها، ومنحها أمواله.

إنه انتحارٌ كليٌ للعقل والمنطق، وحتى للحكمة والحصافة، حيث تُعطى الأولوية لهوية المالك على حساب جودة الخدمات وإتقان العمل والالتزام الأخلاقي وحسن التعامل ومعقولية الأسعار، وكأن لون بشرته أو ديانته أو خلفيته الاجتماعية سوف تشفع لي في حال أمرضني مطعمه بالتسمم، أو قتلت عيادته البيطرية حيواني الأليف.

وفي خضم كل تلك الهستيريا العالمية المضحكة المبكية بـ«سياسات الهوية»، تبزغ ظاهرةٌ عظيمةٌ تتمثل في «شوكولاتة دبي»، أو «كاكاو دبي»، كما نسميه باللهجة المحلية.

كانت سارة حمودة، المقيمة في دبي، قد أسست شركة «شوكولاتة فيكس» في 2021، مستعينةً بخبرات الطاهي نويل كاتيس أومامالين، ومستلهمةً النكهات والتركيبات المختلفة من الرغبات التي كانت تطرأ عليها أثناء حملها. وبينما لاقت حمودة النجاح على الصعيد المحلي، فإن شهرة «فيكس» لم تتفجر عالمياً إلا في ديسمبر من 2023، وذلك بعد مراجعةٍ للشوكولاتة قامت بها المؤثرة البيلاروسية ماريا فيهيرا، والمقيمة بدورها في دبي، ونشرتها من خلال حسابها في تطبيق «تيك توك» للتواصل الاجتماعي، لتتحصل على ملايين المشاهدات في فترةٍ وجيزةٍ.

ومنذ تلك اللحظة، اتفق العالم أجمع، والذي راح يتداول المقطع، ويلهث خلف المُنتج، على أن يُلقّبه بـ«شوكولاتة دبي»، وأن ينسبه مباشرةً إلى المدينة التي وُلد فيها عوضاً عن المعمل الذي صنعت فيه، حتى أكاد أراهن على أن اللقب مألوفٌ لدى الجماهير أكثر من الاسم «شوكولاتة فيكس».

التصق اللقب بالمنتج الظاهرة، ونما معه، ولاق به، ولم يشعر أحدٌ بالحاجة إلى الاعتراض على اللقب، أو التشكيك فيه، أو «نفي صحته».

فعلى الرغم من أن حمودة لم تخفِ يوماً جنسيتها وأصولها، فإنها لم تقاطع الصخب العالمي المحيط بـ«شوكولاتة دبي» لتوضّح بأنها في الواقع «شوكولاتة المرأة المصرية البريطانية المقيمة في دبي»، مثلما أن أومامالين، والذي افتخر كذلك بخلفيته الثقافية وتنشئته المهنية، لم ينتزع الميكروفون ليلقبها بـ«شوكولاتة طاهي الحلويات الفلبيني، والمتدرب في العاصمة الفرنسية باريس».

إننا حتى لم ننشغل بتبيان كيف أن بعض الحشوات المستخدمة في «شوكولاتة دبي»، على غرار الكنافة، وبسكويت «بيسكوف»، ومخبوزات «البريتزل»، ليست من المكونات والنكهات الإماراتية التقليدية التي توارثها أهالي دبي أباً عن جدٍ. كان لقب «شوكولاتة دبي» كافياً، وما زال.

الحقيقة أن «شوكولاتة دبي» برهنت على أن الإمارات قد هزمت «سياسات الهوية» بتشظيها وتشرذمها وقصر نظرها وادعائها وتركيزها المفرط على الاختلافات، بل وبتفريقها المتهور بين البشر عوضاً عن الاجتهاد في التقريب بينهم ولمّ شملهم.

لقد برهن هذا اللقب وحده على أن دبي هويةٌ وصفةٌ شاملةٌ لنا جميعاً، تسعنا وتتقبلنا وتحبنا، بتنوع أصولنا وقبائلنا وأعراقنا وإثنياتنا ومذاهبنا وأدياننا وطبقاتنا الاقتصادية وأوضاعنا الاجتماعية، فلا نضطر تحت ظلها الوارف إلى التشديد على تبايننا عن بعضنا بعضاً، وابتداع المجموعات الهوياتية بالغة التحديد لأنفسنا، بل نكتفي بالاستمتاع بما يوحدنا.

إن ميزة دبي في أنها بوتقةٌ تنصهر فيها التفاوتات والفوارق بين الناس دون أن يفقدوا فيها أنفسهم وهوياتهم وميزاتهم، فنصب منها تسامحاً وتعايشاً نقياً خالصاً.

فمن يستهلك «شوكولاتة دبي» يحترم بلا شكٍ العقل المصري-البريطاني الفذ الذي تفتق عن هذا الخليط العجيب من النكهات والمكونات، ويقدّر كذلك الخبرات الفلبينية والفرنسية التي بثت الحياة في مخططات حمودة.

ولكنه على الجانب الآخر مستهلكٌ محايدٌ، متعقلٌ، منصفٌ، موضوعيٌ، صادقٌ، يختار أن يدعم بأمواله وتقييماته الفكرة المثيرة حيثما وُجدت، والمنتج الرائع، والجودة العالية، دون أن يسيطر عليه، ويحركه مثل الدمية الجامدة، أي هاجسٍ بدعم مجموعة هوياتية دون الأخرى.

لقد نجحت الإمارات، بفضل قيادتها الرشيدة، وسياساتها الواعية، وتكاتفها المجتمعي، في ألا تنجرف بضعفٍ مع الموجة العالمية الجامحة لـ«سياسات الهوية»، والتي صيّرت الأمم أسيرةً لمظلوميات وبكائيات الفئات والمجموعات فيها، وكأن التشرذم والتفرّق كفيلٌ بتوفير العدالة الاجتماعية الغائبة، وتحقيق التوازن والمساواة.

ووجدتني أتيقن من نجاح الإمارات حينما اكتشفت بأن القلة القليلة من الأصوات الشاذة التي تحتج في مواقع التواصل الاجتماعي على لقب «شوكولاتة دبي» تصدر كلها ممن يعيشون خارج حدود دولتنا، فلم يتمازجوا مع مجتمعها، ولم يعرفوا طبيعته، ولا أحسبهم سيستوعبون مطلقاً ما يحدث، زادهم الله بنا جهلاً وحيرةً.

ربما هم يتخيلون واهمين بأن المرء منا في الإمارات اعتاد على أن يكترث لديانة مالك البقالة القريبة من منزله، ويصر على معرفة إثنية سائق سيارة الأجرة الذي ينتظره، ويفتّش عن جنسية التقني الذي سيصلح له حاسوبه، أو ينتقي هؤلاء، ويفد إليهم كعميلٍ، ويدعمهم، بناءً على هوياتهم، بينما نحن في الواقع قد تجاوزنا تلك الترهات منذ زمنٍ بعيدٍ، وتسامينا عليها.

عموماً، إذا صادفتم منذ الآن فصاعداً من ما زال يتهم دبي زوراً وبهتاناً بأنها «مجرد غابةٍ إسمنتيةٍ، ومدينةٍ بلاستيكيةٍ خاليةٍ من الروح»، أو يشكك في التعايش والتسامح الراسخين كجبلي «جيس» و«حفيت» في المجتمع الإماراتي، فليس ثمة ردٌ أبلغ -وألذ- من أن تحشو فمه بـ«شوكولاتة دبي».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق