وزارة الصحة في غزة: صمود مؤسسي وإدارة المستحيل في مواجهة الإبادة الممنهجة - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: وزارة الصحة في غزة: صمود مؤسسي وإدارة المستحيل في مواجهة الإبادة الممنهجة - تليجراف الخليج اليوم الجمعة الموافق 4 يوليو 2025 04:31 مساءً

كتب اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني - 

في قلب المأساة التي تعصف بقطاع غزة والمجازر التي لم تتوقف منذ 21 شهرا والظلام الذي فرضته آلة الحرب الصهيونية، حيث تُحول المستشفيات إلى ركام والأطباء إلى شهداء أو أسرى، والأدوية إلى أمنيات بعيدة المنال، يقف صرحٌ وحيدٌ يتحدى الدمار: "وزارة الصحة في غزة". إنها قصة لأعظم نماذج الصمود الإنساني والمؤسسي في العصر الحديث، هذه المؤسسة العظيمة التي تؤدي دورًا لم يسجل له التاريخ مثيلًا، لا في حجمه ولا في صعوبته ولا في استثنائيته.

شهادة شخصية من قلب الحدث

قبل ست سنوات، تشرفت بزيارة وزارة الصحة في غزة ضمن وفد طبي دولي وأردني، واجتمعت يومها بقيادات الوزارة، وعلى رأسهم الأخ الكبير والقائد الصحي الفذ الدكتور يوسف أبو الريش، وكيل وزارة الصحة، الذي قاد المؤسسة في تلك المرحلة الصعبة، ولا يزال يقودها في ظروف اشد قساوة وأصعب، بحكمة الطبيب ورؤية القائد وتفاني المسؤول وسمو الأخلاق.

ما رأيته وخبرته في تلك الزيارة ظلّ محفورًا في ذاكرتي: تنظيم دقيق، كفاءة مهنية لافتة، وإدارة توازن بين المتاح والضروري وتقرر الأولويات في ظل الحصار الطويل الخانق وقلة الموارد وازدياد وتفاقم الحاجات الصحية لأهل القطاع . كانت وزارة الصحة تُدار كمنظومة صامدة وصامتة بدون ضجيج، واعية بتحدياتها مدركة لإمكاناتها المحدودة، وتسير بخطى ثابتة على طريق الصمود والمواجهة بالتخطيط والتنظيم وحسن التدبير.

قطاع صحي مدمر… لكنه لا يموت

منذ بداية العدوان الصهيوني الأخير، أصبح القطاع الصحي في غزة هدفًا مباشرًا ومستمرًا للهجمات العسكرية. أكثر من 80% من المستشفيات والمراكز الصحية خرجت عن الخدمة، بفعل القصف الممنهج أو نتيجة لانقطاع الوقود ونفاد الإمدادات الطبية. ومع ذلك، تواصل وزارة الصحة عملها في ظروف تُعد أقرب إلى المستحيل حيث تعمل من بين الأنقاض وعبر الهواتف، بعد تدمير مقراتها واستهداف قياداتها بشكل منهجي. مع تدمير 32 مستشفى من أصل 36 وتضرر البقية بشكل كارثي، تحولت العيادات الميدانية، والخيام الطبية، وحتى المنازل الخاصة إلى وحدات رعاية طارئة. الوزارة تُنسق وتدير هذا المشهد المأساوي بأقل الإمكانات.

أكثر من 500 من الكوادر الصحية بين شهيد وأسير وآلاف المصابين، والكوادر الطبية التي ما زالت على قيد الحياة تعمل تحت النار في ظروف مستحيلة لا تُصدق: غرف عمليات دون تخدير وأدوات جراحية يُعاد مرارًا استخدامها دون تعقيم وأدوية منتهية الصلاحية تُستخدم كملاذ أخير وسيارات إسعاف تتحرك تحت الخطر في شوارع ممزقة ومحاصرة. كوادر وزارة الصحة في غزة لا يعملون من أجل الأجر او التصفيق، بل من أجل إنقاذ الحياة. يعملون ويخاطرون بحياتهم بلا ضمانات، بلا موارد، بلا حماية… وبلا توقف وبلا تذمر. الإرادة هنا تتجاوز الواجب المهني إلى مرتبة التضحية الإنسانية العليا.

إدارة ونظام معلومات فعال في ظل عدوان ممنهج يخنق الحياة ولا يكتفي بالقتل..

رغم هذه الظروف الكارثية والعدوان غير المسبوق في التاريخ البشري لم تتوقف الوزارة عن أداء واجبها. تتابع بكثب وتُصدر يوميًا تقارير دقيقة وشفافة عن أعداد الشهداء والجرحى وحالة المستشفيات والوضع الوبائي وتُطلق نداءات استغاثة للمجتمع الدولي والمنظمات الصحية. هذه التقارير ليست مجرد بيانات، بل وثائق حية توثق كارثة إنسانية متواصلة، وتفضح صمت العالم على واحدة من أبشع الجرائم التي يُقاتل فيها القطاع الصحي كي لا ينهار تمامًا ويستمر في تقديم خدماته الإنسانية على محدوديتها. كذلك فإن استمرار عمل النظام المعلوماتي لتسجيل البيانات الطبية والصحية وتوثيق االبيانات الحيوية وإدارة المخزون المتبقي (القليل جداً) وتتبع الاحتياجات هو تحدٍ صارخ للعدو الذي حاول مراراً شل قدرات الوزارة الرقمية. هذه التقارير هي الدليل الأكثر مصداقية الذي يعتمد عليه العالم.

وفي الختام ،وزارة الصحة في غزة تكتب قصة صمود خالدة، لو كُتب لها أن تُروى بإنصاف، لكانت درساً أخلاقيًا فريدا يوثق هزيمة الآلة العسكرية الهمجية أمام إنسانية المهنة وشرف الواجب ونبض الحياة. هذه الوزارة لم تعد مجرد جهة حكومية، بل أصبحت عنوانًا للمقاومة المدنية الإنسانية في وجه الإبادة. لقد أثبتت أن الإنسان، حين يُدفع إلى أقصى حدود البقاء، يستطيع أن يصنع من قلب الدمار منظومةً تدير الألم وتنقذ الأرواح وتصرخ باسم الضمير.

استمرار عمل وزارة الصحة في غزة هو أكبر دليل على فشل المخطط الصهيوني في تحويل غزة إلى أرض موعودة خالية من الحياة والكرامة. إنها تنبض، رغم الجراح، وتصرخ بالأرقام: "ها نحن هنا، وشهداؤنا هنا، وجراحنا هنا، ولن تُمحى جرائمكم".

* الكاتب عضو المكتب السياسي ورئيس المجلس الإجتماعي/ حزب المستقبل والحياة الأردني

نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق