ماذا تغير في خطبة الجمعة بعد مرور عام على "خطة تسديد التبليغ"؟ - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: ماذا تغير في خطبة الجمعة بعد مرور عام على "خطة تسديد التبليغ"؟ - تليجراف الخليج اليوم الأحد 6 يوليو 2025 12:26 مساءً

ها قد مضى عام على "خطة تسديد التبليغ من أجل حياة طيبة" التي أعدها المجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، والتي بدأ تنزيلها في 28 يونيو 2024. وتقضي الخطة بتوحيد خطبة الجمعة على مدار السنة، بكافة مساجد المملكة. ما يعني أنه قد مر على المغاربة أكثر من 50 جمعة في كنف هذه الخطة الجديدة، التي يزعم القائمون عليها أنها سبيل لإصلاح أحوال الناس. فحسب "الدليل المرجعي لخطة التبليغ في التأصيل والفهم والتنزيل"، والمنشور على موقع الوزارة، تهدف الخطة إلى إصلاح علاقة المسلمين بدينهم وتفعيل قيمه من أجل "تحقيق مقومات الحياة الطيبة في المعيش اليومي"، بحيث ينعكس إيمان الأفراد وعبادتهم (الدين) على نفوسهم وسلوكهم (التدين).

     خمسون جمعةً وَنَيِّفٌ يبدو أنها كافية للحديث عن الأداء وتقييم جزء من النتائج المتوقعة وإبداء الملاحظات حولها، تثمينا للمكاسب وتجاوزا للعوائق. وربما مازالت غير كافية لإصدار حكم دقيق حول الأهداف طويلة الأمد لمشروع هذه الخطة. ولذلك أرى أنه من الأسلم من الناحية المنهجية في التحليل أن نطرح السؤال: ماذا تغير خلال هذه السنة في ظل خطة تسديد التبليغ؟ عوض طرح السؤال السابق لأوانه: هل حققت خطة التبليغ مقصود الدين في تغيير أحوال الناس؟

     ويعد السياق من العوامل الأساسية في فهم الخطاب بوجه عام، وإدراك مقاصد أي موقف أو قرار، وخاصة القرارات الحكومية. ولا يُقصد بالسياق سوى الظروف المحيطة، والمعطيات الميدانية والأحداث السابقة التي ورد فيها الخطاب أو اتُّخذ فيها القرار من الجهات الرسمية. فكل نص سواء أكان خطابا خاصا أم بلاغا رسميا، هو وظيفة في سياق معين. ولا يمكن فهم معانيه ومقاصده إلا بوضع تلك الوظيفة في سياقها أو سياقاتها المتعددة.

     أولا ـــ سياقات "خطة تسديد التبليغ"

     الناظر إلى توقيت تبني وزارة الأوقاف "خطة تسديد التبليغ" يجد أنها جاءت في ثلاثة سياقات مختلفة، لكن بعضها يكمل بعضا في الوظيفة:

     السياق الدولي: تزامنت خطة تسديد التبليغ مع تداعيات الحرب على "غزة" بعد زلزال السابع من أكتوبر، وما رافقها من مسيرات شعبية ضخمة بالعاصمة "الرباط" تنديدا بالعدوان على غزة، ومن وقفات تضامنية بكافة المدن المغربية نصرةً للمقاومة الفلسطينية، دعا فيها المتظاهرون بصريح العبارات ومُنقَّى الشعارات الدولةَ المغربية إلى وقف التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي يرتكب أبشع الجرائم في حق أبناء الشعب الفلسطيني. وحذر نشطاء سياسيون وحقوقيون مغاربة من خطوات التطبيع المتسارعة والساعية إلى تجميل صورة "إسرائيل" لدى الشباب المغربي، وصناعة جيل جديد من النخب السياسية والاقتصادية المهادِنة للعدو، والمستعدة لتعزيز التعاون والتنسيق المستدام معه في شتى المجالات حماية للمصالح المشتركة.

     السياق الإقليمي: لا يمكن فصل السياق الإقليمي عن السياق الدولي في قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومخاطره الاستراتيجية على دول الجوار بالمغرب العربي وإفريقيا، خصوصا بعد إثارة مسؤولين إسرائيليين من قلب الرباط مسألة انفصال منطقة القبائل. وهو ما رأت فيه الجزائر تهديدا حقيقيا لنسيجها الاجتماعي، وسعيا حثيثا نحو تفجيره من الداخل عن طريق إشعال فتيل النزاعات العرقية والجغرافية، تمهيدا لزعزعة استقرارها.

     لذلك، لم يفوت النظام الجزائري الفرصة لاستغلال هذه الهَبَّات الشعبية التضامنية مع أهل غزة بالداخل، في التسويق السياسي لموقف الجزائر المناهض للتطبيع، وتصوير المغرب عدوا للأمة العربية بسبب تمسكه بإقامة علاقات كاملة مع إسرائيل؛ وفي تغذية النزاع مع المغرب وتصعيد لهجتها العدائية تجاهه.

     السياق الوطني: جاءت خطة تسديد التبليغ في ظرف سياسي متوتر ومشحون بطاقة زائدة من الاحتقان الشعبي، بسبب استمرار موجة غلاء الأسعار التي أنهكت القدرة الشرائية للمغاربة، في غياب شبه تام لإجراءات حكومية تقلل من حدة التردي الاقتصادي في صفوف الفئات الهشة، وتخفف من وطأة السخط الشعبي الذي يهدد استقرار المجتمع.

     العَرَضُ الثاني من أعراض الاحتقان الاجتماعي غير المسبوق بالمغرب، ما حملته مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان من مقترحات بشأن تعديل مدونة الأسرة، كان عَرَّابَهَا الوزير "عبد اللطيف وهبي". التغييرات المقترحة من قِبل المجلس وهو هيئة دستورية، أغضبت في مجموعها الرجال والنساء معا، وخاصة ما تعلق بإقرار المساواة في الإرث، وتقييد التعدد بحالة إصابة الزوجة بالعقم أو المرض، واستثناء بيت الزوجية من التركة لحماية الأرملة، وتجريم زواج القاصر... لكونها مقترحات مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية.

     وثالث الأعراض موجة الانتقادات الحادة في أوساط الشارع الرياضي المغربي، التي طالت التكلفة الباهظة المخصصة لتطوير المنشآت الرياضية، بعد إعلان الفيفا فوز ملف المغرب بتنظيم كأس العالم 2030 بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، والتي سترفع ــ حسب خبراء الاقتصاد ــ الدَّين المغربي العام إلى أكثر من 70 % من الناتج الداخلي الخام بحلول 2030. ما جعل هؤلاء الخبراء يحذرون من عبء الملاعب قبل وبعد 2030، وطالبوا بتحويل ميزانيتها إلى روافع اقتصادية بعد المونديال، وإلى استثمارات مستدامة تعود على المواطن المغربي بالنفع.

     في ظل هذه الظروف السياسية والاجتماعية الاستثنائية (تداعيات الحرب على غزة، والآثار المترتبة عن حالة التردي الاقتصادي)، كان من الطبيعي أن تتجاوب الخطب المنبرية والدروس المسجدية مع نبض الشارع المغربي، رغم محاولات التضييق على الخطباء بلزوم دورهم في الوعظ والإرشاد، وعدم التدخل في سياسة الدولة. فتفاعل الخطباء والأئمة، على قلتهم، مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية وإنسانية؛ وبعضهم تفاعل مع مستجدات الساحة السياسية والثقافية، وانتقد ــ تلميحا لا تصريحا ــ الأوضاع الاجتماعية بالبلاد، ومآلات الارتهان للخارج في مجموعة من القرارات غير المحسوبة.

     ولا شك أن هذه الفَلَتَاتِ المنبرية ــ بتعبير الدوائر الرسمية ــ من شأنها أن تُحرج الدولة المغربية الموقعة على اتفاقية أبراهام التي تنص على استئناف العلاقات مع إسرائيل، ويؤجج الوضع الاجتماعي الهش ضد حكومة "أخنوش" بسبب أدائها الضعيف، وتركها المواطن المغربي فريسة للأزمات الناجمة عن سوء التدبير الحكومي. ذلك أن خطب الجمعة شكلت ــ ولا تزال ــ أهم مصدر لصناعة الوعي الجماهيري بطبيعة الفتن داخليا والمخاطر المُحَدِّقة بالأمة خارجيا، خاصة وأن عدد الحضور في صلاة الجمعة يضاعف عدد الحضور في غيرها من الصلوات. فكان لا بد من استراتيجية دينية لضبط الإيقاع وكبح الفعل المقاوم عند الجماهير الثائرة، تحافظ بها الدولة المغربية على توازناتها الدولية والإقليمية الكفيلة بحماية مصالحها، وتحفظ ماء وجهها أمام المنتظم الدولي؛ وفي الوقت نفسه تُجنِّب وزارة "التوفيق" تهمة منع الخطباء من التفاعل مع القضية الفلسطينية، ومن التدخل في الشأن السياسي للدولة. ولم تكن هذه الاستراتيجية ــ في نظري ــ سوى "خطة تسديد التبليغ".

     وهو ما يزكي الرأي القائل إن الوظيفة أو الغاية المسكوت عنها في مشروعات الإصلاح الديني بالوطن العربي، التي تتم تحت يافطة التسديد والتجديد والتصويب، هي التحكم في الحقل الديني بشكل يخدم مصالح الأنظمة العربية، ويخدم تغول الحكومات. فما يختبره القائمون على تدبير الشأن الديني بالوطن العربي هو طريقة، لكن ما يسعون إليه هو خريطة للضبط الاستراتيجي.

     ثانيا ـــ ماذا تغير خلال هذه السنة في ظل تسديد التبليغ؟

     من خلال تتبعي لخطب الجمعة عند عدد من الأئمة الفضلاء خلال هذه السنة من "خطة تسديد التبليغ"، هناك ما يبرر أربع ملاحظات كبرى عندي، الأولى تهم الأداء والباقيات تهم المضمون:

    الملاحظة الأولى: تغيرٌ في نبرة الخطيب

    الخطاب الوعظي ليس هو الخطاب العلمي، وليس هو الخطاب الفقهي. الخطاب الوعظي خطاب تفاعلي بين داعية وجمهور معظم رواده من المصلين. فالداعية سواء أكان خطيب جمعة، أم مرشدا بالمساجد، أم واعظا إذاعيا أو تلفزيونيا... يُذكِّرُ الناس بأمور دينهم، ويستنهض هممهم لاستدراك الضائع من السُّنة النبوية، والقيام بجلائل الأعمال. وهذا الدور يستوي فيه جميع الدعاة دون استثناء.

     بيد أن هناك داعيةً ناجحا يَشُدُّ الناس الرحال إلى خطبته رجالا وركبانا، ويتحدثون عن خطبه النارية بعد خروجهم وفي مجالسهم، ويُبَكِّرُ المصلون إلى مسجده ليحجزوا لهم مكانا بين مئات الحاضرين، لأنه استطاع التأثير فيهم بخطاب بسيط تستوعبه كافة الشرائح من المستمعين، وحبَّب إليهم الإسلام بأسلوبه الجميل في الإقناع وتوجيه السلوك وتحريك المشاعر نحو القضايا المصيرية، وتوفق في انتقاء موضوعات حية يتفاعل معها ويبث فيها الروح وإن كانت مألوفة لدى الجميع.

     واليوم، كم عدد الخطباء الذين يتفاعلون بحماس مع موضوعات الخطبة الموحدة، بعد أن حولتهم "خطة تسديد التبليغ"، إلى قنوات إذاعية منزوعة من المشاعر والأحاسيس حتى في دعاء الختم المضبوط على إيقاع الوزارة في نهاية الخطبة؟ ولن أبالغ إذا ادعيت أن وزارة الأوقاف جعلت من الخطباء نسخا متكررة في ظل هذه الخطة، لا فرق عندها بين خطيب مُفَوَّهٍ له تكوين شرعي وبين مبتدئ يسرع في إلقاء الخطبة، ويلفظها بنبرة الموظف لا بنبرة الواعظ الذي تُشد إليه الرحال، ما دام الجميع يستطيع قراءة كلمات مشكولة ومجردة من المعاني.

       الملاحظة الثانية: البعد عن السياق

     من مقومات الخطبة الناجحة ما هو مرتبط بالخطيب، ومنها ما هو مرتبط بالمستمعين أو جمهور الخطيب، كما سبق وذكرنا في الملاحظة الأولى، ومنها ما هو مرتبط بموضوع الخطبة. ومعلوم أن مما يشد انتباه السامعين إلى خطبة الجمعة توافق الموضوع مع واقع الحال. فكلما كان موضوع الخطبة مناسبا لسياقها الزمني، كلما عظمت الفائدة وحصل التأثير المأمول في النفوس. فالخطيب باختياراته الموفقة للموضوعات، يُعِينُ المسلمين على معرفة مناسبة الخطبة، وعلى الاستزادة من الخيرات في مواسم الطاعات. وقديما قال العلماء: "المناسبة شرط".

     ولا ننكر أن وزارة الأوقاف قد توفقت في مراعاة السياق في عدد من الخطب المنبرية في ظل "خطة تسديد التبليغ". ولكن يجب على الوزارة أن تعترف بالمقابل بأن بعض الخطب يصعب على المتلقي وضعها في سياقها الزمني، وبعضها الآخر لا يمت بصلة إلى السياق الزمني، ومن الأمثلة على ذلك: خطبة في موضوع "معجزة الإسراء والمعراج" في 23 رجب 1446ه. وحادثة الإسراء والمعراج حصلت ــ على الراجح من أقوال العلماء ــ في شهر ربيع الأول. ما يعني أنه مر على مناسبة الخطبة أربعة أشهر تقريبا: ربيع الأول وربيع الآخر، وجمادى الأولى وجمادى الآخرة. المثال الثاني: خطبة في موضوع "مفسدات الحج" في 08 شعبان 1446ه. ما يعني أنه سابق لزمن الخطبة بأربعة أشهر: شعبان؛ رمضان؛ شوال؛ ذو القعدة. من يستمع إلى هذه الخطبة يظن أن أغلبية المغاربة شدوا الركاب إلى مكة، أو أنهم على أعتاب الطواف والخطيب يذكرهم بما يفسد عليهم حجهم وطوافهم.

     الملاحظة الثالثة: البعد عن نبض الشارع

     كجمهور رياضي يتابع مباراة مُعَادَة في إقصائيات كأس العالم، لا يتفاعل أغلب المصلين مع أحداث الخطبة ووقائعها إلا اللَّمم. خطب باردة ما عادت تضفي الحياة على أم القضايا الوطنية والإقليمية، وهموم الطالب والعامل البسيط والفلاح... ولا تحمل رسائل ذات قيمة في الحاضر والمستقبل، ولا تؤثر في الجمهور نصوصها البعيدة عن الواقع، وكأن روح هذا الدين صالحة لزمان من سبقونا، ولم تعد صالحة لزماننا. ولولا وجوب صلاة الجمعة بالمسجد، لتخلَّف عن أدائها جمع غفير من المصلين دون عذر، لأنهم يشعرون بأن موضوعاتها لا تنبض بها عروقهم.

     المصلون يريدون موضوعات قريبة منهم، وتمس معيشهم اليومي ووعيهم الجماعي؛ موضوعات حية تتفاعل مع مستجدات الساحة سياسيا واجتماعيا وفنيا وثقافيا... لسان حال الكثيرين بعد الصلاة يقول: نريد خطبا تَحُثُّ المنتخبين السياسيين على أداء الأمانات، كما تَحُثُّ المسلمين على أداء العبادات؛ نريد خطبا تنبه الموظفين بالإدارات إلى إثم التلكؤ في أداء الواجب وتعطيل مصالح الناس، كما تنبه المصلين إلى إثم التلكؤ عن أداء الصلاة في وقتها؛ نريد خطبا تحذر رجال السلطة من إساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ، كما تحذر المتشددين من إساءة التأويل واستغلال نصوص الدين في صناعة التطرف؛ نريد خطبا تدعو إلى عدم تبذير المال العام على العفن في مهرجان "موازين"، كما تدعو المؤمنين إلى عدم تبذير الماء والإسراف في الوضوء...

     هذه الخطب الفاقدة للروح والفعالية من شأنها أن تحمل المصلين على الاعتقاد بأن الدين خاص بالمسجد، ولا يتدخل في جوانب الحياة اليومية وتدبير الشأن العام.

     الملاحظة الرابعة: التشديد على الواجبات دون الحقوق

     تذكرني موضوعات خطب الجمعة بقصة أستاذ مبتدئ تلقى دورة تكوينية في موضوع: "الوسائل البيداغوجية لضبط القسم دون اللجوء إلى العنف"، ومن ضمن هذه الوسائل ميثاق القسم. ومع بداية السنة الدراسية صاغ ميثاقا مشتركا مع تلاميذ جميع الأقسام التي يدرسها. وراح كلما خرج قسم أضاف بندا أو بندين إلى خانة الواجبات، ومسح مثلهما من خانة الحقوق لتقييد حرية التلاميذ، حتى بات ميثاق القسم بلا قيمة عند التلاميذ، لأنه عبارة عن صفحة من الواجبات تتخللها بضعة حقوق التي لا تسمن ولا تغني من جوع في ضبطهم وإخضاعهم.

     وبالفعل من يتابع محاور خطب الجمعة في إطار "خطة تسديد التبليغ"، يجد أنها واجبات في مقابل واجبات وليست واجبات في مقابل حقوق:

ـــ الحرص على أداء حقوق الله: شكر النعم قولا وعملا؛ التزام الصبر الجميل على الابتلاء...؛

ـــ الحرص على الالتزام بثوابت الأمة في العقيدة والمذهب والسلوك وإمارة المؤمنين: حب الوطن والمساهمة في استقراره؛ عدم الخروج عن الجماعة؛ التوسط والاعتدال...؛

ـــ الحرص على الكسب الحلال: الإخلاص في العمل المأجور؛ الإتقان فيه؛ عدم الغش...؛

ـــ الحرص على العطاء في سبيل الله: من المال؛ من النفس والوقت...

     هذه المحاور تدفع الناس إلى التساؤل: هل بات نصيبنا من خطب الجمعة هو تذكيرنا بواجباتنا تجاه خالقنا، والتزاماتنا تجاه الوطن والآخرين؟ وأين حقوقنا على هذا الوطن، وعلى من يديرون شؤون الوطن؟ ما نصيب هذا المؤمن المقهور الذي ندعوه إلى الالتزام بأداء حقوق الله وحقوق الناس عليه، من العدل والتعليم والتطبيب والعمل والعيش الكريم؟ وأين حظه من الديمقراطية وحرية التعبير والتظاهر وتأسيس الجمعيات والحق في التبليغ عن الفساد؟ وهل من الدين أن نطالب المقهور بالصبر على الابتلاء، وبعدم إبداء الشكوى إلا لله، ولا نطالب القاهر برفع ظلمه عن الناس؟ ومتى كان الصبر يتنافى مع المطالبة بالحقوق بالوسائل المشروعة؟

     إن طلب الخطيب في كل مرة من المقهور التعايش مع قهره، وتحميله المسؤولية في فساد أوضاع الأمة، يوحي بأن ديننا الحنيف يعلم أتباعه الخنوع والذلة. كما أن سكوته عن الجهر بالحق في وجه أصحاب النفوذ، هو شكل من أشكال التطبيع مع الفساد السياسي، ونَزْعٌ إلى تبرئة الظالم وإدانة المظلوم في عين المجتمع.

     رسالتي إلى وزير الأوقاف:

     إذا كان للوزارة نية حسنة في تسديد التبليغ فعلا، وإذا كان يهمها ترشيد عمل الخطباء وإصلاح الاختلالات التي تعتري خطب الجمعة، فإليها هذان الحلان:

     الأول: أن تحدد الوزارة محاور عامة تؤطر خطب الجمعة، وتضع بين أيدي الخطباء عناوين مختلفة تصلح أن تكون خطبا منبرية تراعي هذه المحاور، كما تراعي المناسبات الدينية والوطنية، مع ترك حرية الاجتهاد للخطيب في بناء الخطبة التي يراها مناسبة؛

     الثاني: من حق الوزارة اقتراح خطب موحدة على الصعيد الوطني، كلما دعت ضرورة إلى ذلك، ترفقها بنموذج خطبة جاهز في كل موضوع من موضوعاتها لمن أراد من الخطباء اعتمادها دون اجتهاد، بشرط ألا تنتقم ممن التزم بموضوع الخطبة الموحدة ولم يلتزم بنص الخطبة كما لو كانت وحيا منزلا.

     في نهاية هذا المقال النقدي لـ "خطة تسديد التبليغ"، لا يستطيع أحد الادعاء أن أحوال الناس قد ساءت بعد تبني وزارة الأوقاف لهذه الخطة، ولكن بشهادة الكثيرين، فإن خطبة الجمعة فقدت مكانتها في بناء وعي المجتمع، ولم تعد صالحة لطهارة قلب أو تزكية نفس في ظل هذه الخطة. كما أفقدت الخطيب هيبته بتحويله إلى مجرد قارئ لخطاب ديني شبه فارغ من محتواه الروحي. ونتيجة لذلك، فقد المسجد جاذبيته وتحول إلى مكان لإقامة الصلوات الخمس. فيا وزير الأوقاف: هذه خطب المواقع، فأين خطب الواقع؟ وهذا خطيب المقابر، فأين خطيب المنابر؟

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق