بغداد: المدينة التي تحفظ أسرار الذهب والرماد - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: بغداد: المدينة التي تحفظ أسرار الذهب والرماد - تليجراف الخليج اليوم الأحد الموافق 18 مايو 2025 11:00 صباحاً

 

لم تكن زيارتي لبغداد في عام 2015 مجرد رحلة عمل عابرة، بل كانت عودة تشبه صحوة من حلم طويل، أو أشبه بنداء قديم في الدم. شيء في المدينة كان يناديني منذ أكثر من ثلاثين عامًا، منذ الثمانينات، حين زرتها لأول مرة صبيًّا في مقتبل الوعي، أستنشق عبير التاريخ دون أن أدركه، وأمشي بين حجارتها العتيقة دون أن أعي أنني أمشي فوق ذاكرة الدنيا.

دخلت بغداد بعد كل هذا الغياب، وقد غيرت الحروب والخذلان ملامحها. الشوارع التي كانت تضحك للمارة صارت تهمس، والبيوت التي كانت تغني باتت صامتة، كأنها تحبس الدموع في جدرانها. ولكن رغم كل ذلك، لم تخنني بغداد. لا تزال رائحتها كما هي — رائحة الكتب القديمة، والقصائد غير المكتملة، والمآذن التي تشق صمت الزمن، كأنها تقول: "ما زلت هنا... رغم كل شيء."

العودة إلى شارع الرشيد... والذاكرة التي لا تُرمم

في أحد أيام الجمعة، انتهيت من عملي مع شركة "الأجنحة العربية"، وقررت أن أخون الخوف، وأسير وحدي في قلب المدينة، رغم التحذيرات، رغم العيون التي تفتشك قبل أن تفهمك. اتجهت إلى شارع الرشيد، ذاك الشريان الذي يربط الماضي بالحاضر، ثم إلى شارع المتنبي، حيث الهواء لا يحمل فقط الغبار، بل يحمل كلمات مات أصحابها وبقيت أرواحهم تسكن الكتب.

الشارع تغيّر... لا شك في ذلك. لكنه ككهلٍ حافظ على كبريائه رغم التجاعيد. لم تعد المقاهي كما كانت، ولا الباعة كما تذكرتهم، ولكن الأرواح... الأرواح لم ترحل. كنت أشعر بأن كل جدار يحدّق بي، وكل ركن يتهامس عن زمن لم أكن فيه، لكنه يعيش في داخلي.

بين الأزقة، صادفت شيخًا جالسًا إلى طاولة خشبية صغيرة، أمامه مخطوطة بالية صفراء، يكتب عليها بخط كوفي نادر. كان المشهد يشبه لقطة من حلم: رجل كأنه خرج من كتاب، والزمان متوقف حوله. سألته دون توقع:

– ما الذي تكتبه يا شيخنا؟

فأجاب دون أن ينظر إليّ:

– أدوّن ما لم يجرؤ التاريخ على قوله.

اقتربت أكثر، فرأيت أنه يكتب عن "صالح بن علي"، خطاط عباسي كان ينسخ كتب الحكمة سرًا، ويخبئها في جدران المساجد خوفًا من أن تطالها نار السياسة أو جهل السلاطين. قال إن هناك كتابًا واحدًا بقي مدفونًا في الرصافة، يحتوي على ما يُسمّى بـ "وصايا بغداد"، سبع حكم من عرفها نجا، ومن عمل بها صار قلبه لا يُكسر.

تعلقت روحي بتلك الحكاية كما يتعلق الغريق بخشبة نجاة.

وعدت في اليوم التالي إلى الشيخ، فلم أجده. الطاولة كانت خالية، والمخطوطة اختفت كما لو كانت سرابًا في الصحراء.

رحلة البحث تبدأ... وتبدأ بغداد بالكلام

سافرت في أزقة الكرخ، في صمت المقاهي، وفي ضجيج بسطات الكتب. سألت العارفين والغافلين، وكل من ظننته يحمل شيئًا من زمن "بغداد الكبرى".

وفي كل مرة، كنت أُجاب بصوتٍ لا يُقال، بل يُشعر:

لا تبحث عن الحكمة في الكتب، بل في من كُسروا ولم ينكسروا.

وذات يوم، في مسجد قديم قرب دجلة، وبينما كنت أستمع إلى الأذان يرتفع كما يرتفع الحنين، لمحت جدارًا حجريًا متهالكًا، عليه نقوش باهتة. من بينها برزت جملة واحدة، مكتوبة بخط كوفي:

الوصية الرابعة: لا تأتِ المدينة لتأخذ، بل لتعطيها ما تبقى منك.

تسمرت مكاني. شعرت وكأن الزمن توقف. تلك الكلمات كانت نداءً خفيًا إلى كل من حمل لبغداد حبًا غير مشروط.

لم أجد باقي الوصايا، لكن تلك الجملة وحدها حفرت أثرًا في قلبي لا يُمحى.

منذ تأسيسها في عام 762م على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، كانت بغداد حلمًا مؤسسًا بالحكمة والفن والعلم.

في عصورها الذهبية، كانت قبلة العلماء، ومنارة الفكر الإنساني، حيث اجتمع الطب والفلك والفلسفة والشعر. ولكنها، مثل كل المدن العظيمة، دفعت ثمن عظمتها دمًا ونارًا. اجتاحها المغول، وعاثت بها الحروب، وقصفتها الأنظمة، وتركها الجميع تنهشها الطوائف والفقر والجشع.

لكن رغم كل ما جرى، بقيت. لم تمت. لأن المدن التي تُبنى بالحب لا تهدمها البنادق.

حكم استخلصتها من المدينة التي لا تموت

-بغداد لا تُقرأ، بل تُحس. ليست مدينة، بل كائن حي يحفظ أرواح زواره أكثر من صورهم.

-الحكمة ليست ما يُقال، بل ما يبقى ساكنًا فيك رغم الصمت.

-الكرم الحقيقي أن تظل مفتوح القلب في وجه مدينة تعلم أنها قد تخذلك.

-في كل حجر من بغداد درس، وفي كل جدار قصيدة لم تكتمل بعد.

-التاريخ ليس ما يُكتب بالحبر، بل ما يُحفر بالندوب.

-المدن المجروحة تعلمك أن الجمال لا يسكن الكمال، بل في القدرة على النهوض بعد السقوط.

-حين تبحث عن الحكمة، لا تبحث عن الشيخ... بل عن الصمت الذي يتركه حين يرحل.

إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى من تصل إليه هذه الكلمات:

إذا مشيتم في بغداد، فامشوا ببطء... احترموا صدى الخطى على أرصفتها. لا تنظروا إليها كمجرد مدينة، بل كمعلّمة مجروحة، كتبت دروسها بالدموع والحنين. اسمعوا صوت دجلة، راقبوا ظل النخيل، وتذكروا أن بغداد لا تُملك... بل تُحب.

في بغداد، لا تبحثوا عن الكنز في باطن الأرض... بل في عيون من ظلوا واقفين، رغم أن كل شيء دعاهم للانكسار.

 

.


نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق