في حضرة الاستقلال: من معلمٍ إلى من سيحملون الراية - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: في حضرة الاستقلال: من معلمٍ إلى من سيحملون الراية - تليجراف الخليج اليوم السبت الموافق 24 مايو 2025 05:17 مساءً

 

 

أيها الأبناء، يا من مشيتم بين مقاعد الدرس ونظراتكم معلقة على السماء، يا من جلستم في صالات المحاضرات وقلوبكم تسبقكم إلى الحياة، أكتب إليكم اليوم من ضفة الحلم، من مرفأ المعرفة، من مكانٍ رأيت فيه وجوهكم تتغير، تتفتح، وتتجهز لتكون أكثر من طلبة… لتكونوا أبناء هذا الوطن الذين يُعوّل عليهم أن يحرسوا استقلاله، لا بذكرى تُحتفل، بل بروحٍ تُحمل.

عيد الاستقلال التاسع والسبعون ليس يوماً عابراً، وليس رقماً في تقويم أو مناسبة رسمية في الإعلام. هو لحظة صادقة، يعود فيها الوطن إلى أولاده، ويسألهم بصوتٍ خفي: هل أنتم على العهد؟ هل أنتم الجيل الذي سيكمل الطريق كما بدأه الأوائل؟ هل أنتم من يُعطي دون أن ينتظر؟ من يصون دون أن يُذكَّر؟ من يحمل دون أن يُكلَّف؟

لقد خرجت من بين يديّ مئات الوجوه. رأيت فيكم ما يكفي من الذكاء، من الطموح، من الرغبة الصادقة في التغيير. ولكنّي رأيت أيضًا كيف يمكن أن يتسرّب الإحباط إلى القلوب، كيف تتراكم الأسئلة في الصدور، وكيف يثقُل الحلم حين يطول انتظاره. ولهذا أكتب إليكم… لا لأُعلّم، بل لأُذكّر. لا من مقام الأستاذ، بل من مكان الأب والمواطن والراعي الذي لا يطلب شيئاً لنفسه، بل يحلم لوطنه.

أيها الأحبة، الاستقلال ليس حدثاً ماضياً، إنه فعلٌ مستمر، حالة ذهنية وروحية. أن نكون مستقلين لا يعني فقط أننا نملك حدوداً وجيشاً ومؤسسات، بل أن نملك قرارنا، أن نملك وعينا، أن نملك شجاعتنا في قول الحق، وأن نملك إيماننا بأن هذا البلد، رغم كل ما فيه، يستحق أن يُبذل من أجله كل شيء.

في زمن العواصف، يكون الوطن أكثر عطشاً إلى من يحميه، لا من ينقضه. وفي زمن اليأس، يحتاج إلى من يفتح النوافذ لا من يغلقها. لا تنتظروا أن يُطلب منكم الوقوف في الصفوف الأولى، بل بادروا إلى الصف دون أن يُشير أحد. لا تنتظروا المناصب ولا المديح، بل اصنعوا أنفسكم في صمتٍ وكبرياء، كمن يحرث الأرض وهو يعلم أن الزرع سيأكله من يأتي بعده.

أقول لكم بكل صراحة: نعم، الطريق ليس سهلاً. نعم، هناك عقبات. نعم، ثمة من سيفقد إيمانه، من سيغادر، من سيبيع. ولكن هذا لا يُقلل من قيمة الوقوف. بل يُعلي من شأن من ظل واقفاً، ثابتاً، مؤمناً بأن هذا التراب لا يُقاس بثمن، ولا يُفاضل عليه أحد. فحين يتراجع الكل، يبقى الوطن في رقبة من لم يتراجع.

علّمتكم أن التفكير حق، وأن السؤال ضرورة، وأن العقل نور. ولكن علّمتكم أيضًا أن العقل وحده لا يكفي. لا بد من القلب، من الإحساس، من الغضب النبيل حين تُهان كرامة البلد، ومن الحب الصلب حين يتهكم البعض على الوطن ويجعلون من خيبتهم فيه تهمة، لا مسؤولية.

اجعلوا من علمكم نافذة، لا جداراً. لا تضعوا شهاداتكم في خزائن، بل في الميدان. لا تقولوا "لا نستطيع”، بل ابحثوا عن الطرق. لا تخشوا الفشل، فالذين بنوا الأردن لم يكونوا معصومين. كانوا بشراً، لكنهم كانوا صادقين. كانوا فقراء، لكنهم كانوا أغنياء بالإرادة.

سيأتي من يُقلّل من إنجازاتكم. سيقولون لكم: وماذا تفعلون في وطنٍ لا يُكافئ؟ لكن تذكّروا، الوطن لا يُكافئ بل يُسكن في القلب، في الضمير، في سلوك اليومي. الوطن هو تلك المساحة التي لا تتطلب اعترافاً، بل التزاماً. فإن كنتم تريدون أن تُغيروا، فابدأوا من حيث تقفون. في عملكم، في أخلاقكم، في شفافية قراراتكم، في رفضكم للصغائر.

وحين تسافرون، لا تتركوا الأردن خلفكم كصورة قديمة، بل خذوه معكم في تفاصيلكم، في اجتهادكم، في قدرتكم على أن ترفعوا اسمه من غير أن تقولوه. وإن عدتم، فعودوا بحبٍ لا مشروط، لا مدجّج بالأسئلة. الوطن لا يحتاج إلى عتاب، بل إلى من يُربّت على كتفه ويقول: ما زلتُ هنا، وسأبقى.

في عيد الاستقلال، لا تطلبوا من الأردن أن يُعطيكم كل شيء، بل اسألوا أنفسكم: ماذا أعطيناه؟ هل كنّا كما يجب أن نكون؟ هل وقفنا في لحظات الشدة كما وقف هو معنا؟ لا تجعلوا حبكم للوطن مشروطاً بالراتب، ولا انتماءكم مرهوناً بالفرص. فالوطن ليس وظيفة، بل قدر، كما الحب، لا يُفسَّر ولا يُشترط.

دعوني أختم رسالتي بما يليق بكم. أنتم، يا من أعددتُكم لتكونوا عقول هذا البلد، لا ترضوا بأنصاف الحلول، ولا أنصاف الأحلام. إما أن تكونوا هذا الوطن في أجمل صوره، أو لا تكونوا. إما أن تحملوا مشعله في العتمة، أو تتركوه يتخبط بين من يرفعون الراية في النهار ويطعنونه في الليل. لا تكونوا حياديين في زمن يحتاج إلى الموقف، ولا صامتين في لحظة تتطلب الصوت.

كلما رأيت علماً يرتفع، تذكرت أن خلفه قلباً خفق، وذراعاً ارتفعت، وأرضاً انتظرت. فلا تخذلوا الأرض. لا تخذلوا من حلم قبلكم. ولا تخذوا أنفسكم.

وكل عام وأنتم أبناء هذا الوطن لا في الهوية فقط، بل في المبدأ…

وكل عام والأردن بخير، لأنكم بخير.


نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق