نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: د. بني هاني يكتب عن اقتصاديات الفوضى #عاجل - تليجراف الخليج اليوم الأربعاء الموافق 23 يوليو 2025 07:29 مساءً
كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني -
شرايين الفوضى: اسمحوا لي بالعودة إلى رواية "غاردينا"، المدينة – الدولة التي تخيلتها عبر ما يقرب من عقدين من الزمن. وفيها تلتهمك هجمة شرسة ومتواصلة تستهدف كل حواسك. فالمدينة لا تهدأ، بل تصرخ. شريان حياتها ليس التجارة بمعناها التقليدي، بل هو صخبٌ قاسٍ، يائس، يصم الآذان، تتجلى فصوله على شوارعها الإسفلتية الضيقة والمتصدعة. وشوارعها، التي لا تكاد تتسع لمرور مركبتين، تحولت بدلاً من ذلك إلى أسواق دائمة للحركة والضجيج. لا يُبشر الصباح بزقزقة العصافير، بل بهدير محركات الديزل المنبعث من شاحنات "الفان" وسيارات "البيك أب" الصدئة وهي تحتل مواقعها. هؤلاء هم بقّالو المدينة.
من مؤخرة كل شاحنة (Van)، يَصيحُ رجلٌ بصوت أجش: " بندورة! حمراء وطازجة، وأرخص من السوق، وباذنجان، وزهراء، وبطاطا!". لكن صيحته تبتلعها على الفور صيحة منافسة من الجانب الآخر من الشارع، حيث يُعلن رجلٌ آخر، عبر مكبر صوت مربوط بباب سيارته، عن حلاوة بطيخه التي لا تضاهى. والأسعار ليست مكتوبة، بل معلنة، تُقذف في الهواء كالحجارة، فتخلق نشازاً من الأرقام المتنافسة وأصناف الخضار والفواكه. وفي شوارع غاردينا يتكئ السكان على نوافذهم، مساومين من الطابق الثالث، بينما يشق المشاة طريقهم عبر مسار محفوف بالمخاطر من صناديق الخضار، والأوراق المتناثرة، وخطر الاصطدام بمرآة جانبية في كل لحظة.
تتغلغل في نسيج هذا السوق المكون من المركبات طبقة أخرى من اقتصاد " غاردينا " غير الرسمي. رجال يجرون عربات يدوية، أو سيارات "بك أب"، غالباً ما يكتفون بصوت جهوري وخطى ثابتة، يجوبون الأزقة السكنية. نداءاتهم تمثل نوعاً مختلفاً من الشعارات: " هل لديكم أي شيء للبيع؟ ثلاجات قديمة؟ أجهزة تلفاز معطلة؟ نحن نشتري كل شيء!". إنهم نبّاشو الأدوات المنزلية، يصرخون بأسئلتهم في نوافذ البيوت، وتضيف أصواتهم إيقاعاً قرعياً يائساً إلى سيمفونية بائعي الشوارع. إنهم الطفيليات التي تتغذى على ثقافة الاستهلاك، يعدون بالمال مقابل بقايا حياة الأسر، وحضورهم تذكير دائم بالتحلل والتجدد في أكثر صوره فوضوية.
ويشرف على هذا المشهد برمته قسم الصرف الصحي في المدينة، أو بالأحرى، وكلاء فشله. يتحرك جامعو القمامة بنوع من عدم الكفاءة العنيف. فالحاويات لا تُفرغ بقدر ما تُهاجم، حيث تُقذف محتوياتها في الاتجاه العام للشاحنة. وما يخطئ الهدف - وهو كثير دائماً - يُترك خلفهم. يترك مرورهم أثراً من الأكياس البلاستيكية الممزقة، وأغلفة الطعام الدهنية، وعلب الصودا اللزجة. وتقوم الريح بالباقي، فتنثر الحطام في كل زاوية، وزقاق، ومدخل، لتخلق سجادة موحدة من القذارة أصبحت السمة الأكثر تحديداً لهوية "غاردينا". المدينة ليست مليئة بالقمامة فحسب، بل أن بعض أحيائها وكأنها مرصوفة بالقمامة، باشكالها المُتعددة.
ثقافة الضجيج والخوف: لا تقتصر الفوضى في " غاردينا " على معاملاتها التجارية، بل هي متجذرة في صميم ثقافة الحياة اليومية وإيقاعها. يُقاس مرور الوقت بطبقات جديدة من الأصوات المزعجة. مرتين في اليوم، تستعد المدينة لتنقل أطفالها، من وإلى المدارس. والحافلات المدرسية، الصفراء الضخمة، تشق طريقها في الشوارع الضيقة بعدوانية تكاد تكون خبيثة. سائقوها لا ينقرون على أبواق سياراتهم، بل يتكئون عليها. الصوت عبارة عن انفجار طويل حاد، لا يهدف إلى التحذير، بل إلى الأمر والترهيب، فيُشتت المشاة ويهز نوافذ الشقق. إنه صوت التعليم قادماً وذاهباً، درسٌ يومي في الهيمنة السمعية، الصام للآذان.
وفي المساء، تتجلى أولويات المدينة بوضوح صارخ. في الساحات العامة الضيقة، والقليلة، المُتاحة أمام المحلات التجارية التي لم تستولِ عليها السيارات المتوقفة، تتجمع الحشود. هنا، يؤدي المسوّقون عروضهم، وتضيء حركاتهم كشافات محمولة تعمل بمولدات صاخبة. تنطلق الموسيقى من مكبرات صوت متهالكة بينما تعكس أزياء الراقصين المرصعة. يصرخ العارضون بأعلى أصواتهم عن البضائع المعروضة للبيع والتخفيضات عليها، والجوائز الممنوحة للمشترين.
في " غاردينا " هناك سيمفونية أخرى تبث الحزن، حيث يُحتفى بالراقصات اللواتي يُتقن الرقص الشرقي على أنهم أيقونات الفن، والأمومة المثالية، ولكن في هذه الأثناء، وفي زوايا المدينة المعتمة، يُهمّش علماؤها ومثقفوها في غياهب النسيان. فقد تجد عالمة فيزياء لامعة تعطي دروساً خصوصية للأطفال مقابل أجر زهيد، بينما يتراكم الغبار، على أوراق أبحاثها الرائدة، في درج منسي. وقد تجد عالم اجتماع ذا رؤى ثاقبة حول خلل المدينة يقود إحدى شاحنات الخضار، بعد أن أصبحت مساعيه الأكاديمية ترفاً لا يقدر عليه، وبعد أن أصبح فقير الحال لا يقدر على تأمين احتياجاته الأساسية. وفي " غاردينا "، يُكافأ الجسد، أما العقل فيُترك ليتدبر أمره بنفسه. وأن تفكر بعمق يعني أن تكون بلا أهمية؛ أما أن تُرفِّه عن الآخرين فيعني أن تُتوّج على عرش الفن، وأن تكون حياتك هينة لينة.
يدعم هذا الخلل الثقافي نظام سيطرة هادئ ولكنه واسع الانتشار. مدير العلاقات العامة في المدينة شخصية ذات سلطة هائلة، صورته مصقولة بعناية ومنتشرة في كل مكان على اللوحات الإعلانية. إنه الراوي الرسمي لقصة " غاردينا "، قصة تقدم وحيوية لا تمت للواقع بصلة. وإن تحدي هذه الرواية هو ارتكاب خطيئة جسيمة. فأي صحفي، أو فنان، أو مواطن عادي يجرؤ على انتقاد المدير أو الإشارة إلى إخفاقات المدينة الواضحة، تتم مقاضاته بسرعة وعلانية. التهمة دائماً ما تكون غامضة - " نشر الفتنة " أو " الإضرار بسمعة المدينة " - لكن النتيجة دائماً مؤكدة. هذا التهديد غير المعلن يضمن أنه بينما تعلو أصوات التجارة في الشوارع، فإنها تصمت عن أي صوت للنقد الحقيقي.
النظام الذي يديم نفسه: حالة " غاردينا " ليست نتيجة مجرد إهمال، بل هي نتاج نظام فعال، وإن كان شاذاً. هذا هو اقتصاد الفوضى، حيث كل عنصر مختل يغذي العناصر الأخرى ويديمها. وإن انعدام فرص العمل الرسمية يدفع الناس إلى البيع الجوال غير الرسمي وغير المنظم الذي يسد شرايين المدينة. وغياب نظام فعال لإدارة النفايات يخلق القمامة ذاتها التي يقوم جامعوها بنثرها بعد ذلك.
ترتبط المجالات الثقافية والسياسية ارتباطاً وثيقاً بهذا الواقع الاقتصادي. فالشعب المشتت بالترفيه الصاخب، الذي أصمته ضوضاء الحياة اليومية، من غير المرجح أن يُلاحظ التدهور المطرد في نوعية حياته. والاحتفاء بالمشهد على حساب الجوهر يضمن بقاء عدد قليل من الأصوات المرموقة القادرة على صياغة رؤية متماسكة لمستقبل أفضل. وتهميش العلماء والمفكرين ليس من قبيل الصدفة، بل هو شرط أساسي لنظام لا يستطيع الصمود أمام التدقيق. فشعب متعلم وناقد سيطالب بطرق أفضل، وشوارع أنظف، وأحياء أهدأ، وقادة مسؤولين. وسيتساءلون لماذا تكافئ مدينتهم الراقصات أكثر من الأطباء.
وتعتبر مقاضاة المعارضة آخر ترس حاسم في هذه الآلة. فهي تقضي على آخر بقايا المعارضة، ما يضمن أن مهندسي الفوضى، كمدير العلاقات العامة، الذي لا يمكن المساس به، يمكنهم الاستمرار في العمل دون عواقب. والخوف من الانتقام هو السياج غير المرئي الذي يُبقي الفوضى محتواة ويمنعها من التحول إلى تمرد منظم.
وهكذا، فإن كل كيس بلاستيكي يتطاير على الرصيف، وكل صوت بوق من حافلة مدرسية، وكل صيحة من بائع خضار، وكل مثقف تم إسكاته، هو مكون حيوي في اقتصاد " غاردينا ". فهو نظام يعمل على الضوضاء والتلوث البيئي والخوف. إنه يديم نفسه عن طريق سحق النظام، والفكر، والأمل. وأن تعيش في " غاردينا " يعني أن تكون ترساً في هذه الآلة الرهيبة الطاحنة، مواطناً في مدينة أتقنت فن الانهيار والتربح من الأنقاض. إنها، بكل المقاييس الممكنة، مدينة فظيعة للعيش فيها، لكن إصلاحها ممكن، لأن في قلب مدير العلاقات العامة طيبة كبيرة، وهو ينحدر من أسرة محترمة. فلندعو لغاردينا بالصلاح والتقدم.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.
0 تعليق