جدة... مدينة لا تقع على الخريطة، بل على نبض القلب - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: جدة... مدينة لا تقع على الخريطة، بل على نبض القلب - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء الموافق 20 مايو 2025 08:13 صباحاً

 لا تُحاول أن تجد جدة في كتاب الجغرافيا، أو على أطلس الرحلات. لن تراها هناك كما هي.

جدة ليست مجرد ميناء على البحر الأحمر، وليست فقط نقطة على خط الطول والعرض. جدة، مدينةٌ لا تُقاس بالمسافة، بل بما تُحدثه فيك من اهتزاز داخلي، من يقين بأنك إن وصلت إليها مرة، فلن تغادرها أبدًا... حتى لو رحلت عنها بالجسد.

هبطتُ فيها في نهاية الثمانينات. لم تكن الرحلة الأولى لي كطيّار، لكنّها كانت الرحلة الأولى إلى ذاتي.

على متن طائرة B727، أتيتُ إليها محمّلًا بالأسئلة، بالضبط كما يحمل الطيار أدوات الملاحة، والخرائط، والخطط البديلة. لكن ما إن لمست عجلات الطائرة أرض مطار الملك عبدالعزيز، حتى أدركت أن جدة لا تُقرأ بالبوصلة، بل بالبصيرة.

ذلك العام الذي قضيته فيها... لا أعلم كيف أصفه. 12 شهرًا؟ لا. 365 يومًا؟ مستحيل. لقد كان عامًا واحدًا، لكنه يحتوي دهشة مئة عام، وسكون قرن من التأمل، ودفء ألف غروب على شاطئ الحلم.

حين تطير، أنت لا تهرب من الأرض، بل تبحث عن معنى أعلى. في كل رحلة كنت أنطلق بها من جدة إلى الرياض، الدمام، باريس، كراتشي، جاكرتا، نيويورك ... كنت أعلم أنني لا أُغادر فقط مطارًا، بل أُغادر قلبًا نابضًا، لا يفارقني حتى على ارتفاع 38 ألف قدم.

في جدة، كل رحلة تبدأ من البحر. البحر ليس خلفها، بل بداخلها. تشمّه في ملابس الصباح، في نكهة الشاي، في طريقة المشي، في الموسيقى التي يعزفها الصمت عند المغيب. والبحر، كما تعلم، لا يعطي سره إلا لمن أحبه.

وكنتُ أحب جدة... كما يحب الطائر السماء: بلا سبب، بلا شروط، بلا انتظار.

في مدينة "السعودية"... كنت أعيش بين الأجنحة

سكنتُ في الكومباوند الشهير التابع للخطوط السعودية، مدينة داخل المدينة. كانوا يسمّونه "مدينة السعودية"، لكنه في عيني لم يكن إلا مدينة الحلم... مجتمع صغير من الطيّارين، المهندسين، أفراد الطاقم، وكل أولئك الذين يوقظون الفجر قبل أن يوقظه المؤذّن، ويُغلقون الليل وهم ما زالوا في سماء الرحلة.

هناك، لم نكن زملاء عمل فقط، بل إخوة في الحلم. كنا نحمل البلاد على ظهورنا كما يحمل القبطان سفينته وسط المحيط.

لم تكن الخطوط السعودية مجرد شركة طيران، بل وطنًا طائرًا، يربط أبناء الأرض بعضهم ببعض، يفتح نوافذه للغيم، لكن عيونه تبقى شاخصة نحو السعودية.

في الصباحات التي لا يعرفها الناس، كنت أرى رجالًا في قسم الصيانة يعملون بصمت، كأنهم يصلّون. ينظرون إلى جناح الطائرة لا كقطعة معدن، بل كأمانة. يفكّون المسمار كمن يفتح قلبه، ويعيدونه إلى مكانه كمن يعيد نبض الحياة.

مهندسو الطيران، الفنيون، المفتشون... كلّهم فرسان مجهولون. لا يظهرون في صور الصحف، ولا يُصفق لهم المسافرون، لكنّهم، هم من يجعلون الحلم ممكنًا، ويُبقون الطائرة في السماء بسلام.

الوجوه التي لا تنام في المطار

عند البوابات، كنت أرى موظفي الأمن، واقفين كالجبال، لا يتزحزحون، لا يتعبون، لا يشتكون. وجوههم صارمة، لكنّها تخفي خلفها قلوبًا فيها من الكرم أكثر مما في صالات الضيافة.

في مكاتب التذاكر، كانت الموظفات ينسجن الابتسامة كحياكة ذهب، يعرفن أن الكلمة الطيبة تسبق الطائرة. وفي إدارة الرحلات، هناك من يكتب لك طريق السماء قبل أن تمشي إليه.

كل موظف... كل عامل نظافة... كل متدرب في فترة الامتحان... كانوا جزءًا من أوركسترا الرحلة، من سيمفونية الوطن.

السماء ليست هدفًا... بل مدرسة

كنت أطير فوق أوروبا، فوق آسيا، فوق القارات كلّها. أسمع في السماء صوت الغيم، وأقرأ على الأرض قصصًا لا تنتهي.

وكان كل إقلاع درسًا في التواضع، لأنك ترى العالم صغيرًا من فوق، وتدرك أن الكبرياء لا يليق بالكائنات المؤقتة.

كنا نحلّق في الصباح الباكر، نحمل الأطفال الذين ينامون في مقاعدهم كأنهم في أسرّة أمهاتهم، نحمل الأمهات، الحجاج، العمال، العائدين، العاشقين، والمغتربين.

كل راكب كان حكاية. وكل طائرة كانت سفينة نوح، تُنقذ الناس من الغربة، وتعيدهم إلى أوطانهم، أو إلى أنفسهم.

إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى من تصل إليه هذه الكلمات:

يا أبنائي... جدة لا يمكن اختزالها في صورة أو شارع أو كورنيش. جدة مدينة تحيا فيك، حتى لو لم تعد إليها.

جدة ليست فقط المكان الذي كنت أعيش فيه... بل هي المكان الذي عشت بفضله.

هي التي علمتني أن الكرم ليس أن تعطي، بل أن تُشعر الآخر أنه يستحق. أن الضحك ليس نتيجة فهم، بل استسلام للبهجة. أن الطيران ليس فقط رفرفة جناح، بل انفتاح قلب.

فإن أردتم يومًا أن تفهموا من أنا، تذكروا هذا:

أنا رجل عاش في السماء، لكنه وجد وطنه في جدة.

وإن أردتم أن تعيشوا طويلًا، فتعلموا أن تحبوا مدينة لا تُعرّف بالشوارع، بل بالدفء.

مدينة، حين تُغادرها، لا تقول لك: "وداعًا"... بل تقول: "سأبقى معك."

وإذا ما رأيتم غيمة، أو شممتم رائحة البحر، أو ضحكتم من نكتة لم تفهموها، فاعلموا أن جدة تُحيّيكم.

 

.


نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق