علماء صنعاء المجددون - مقدمة المؤلف - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: علماء صنعاء المجددون - مقدمة المؤلف - تليجراف الخليج اليوم الاثنين 2 يونيو 2025 09:54 صباحاً

شَهِدت الإمامة الزّيدِيّة بعد وفاة المنصور الحسين بن المُتوكل القاسم (تَاسع أئمة الدولة القاسمية) تَغيرًا نَوعيًا في مَسارها السياسي 23 ربيع الأول 1161هـ / 22 مارس 1748م، استقرت وراثة في ذرية ذلك الإمام، فَعملوا على نبذ التعصب المذهبي، والتقرب من عُلماء السُنة المُجددين، ليس حُبًا في الأخيرين؛ وإنما حِفاظًا على عُروشهم، مُستفيدين من عَدم إجازة هؤلاء للخروج على الحكام.

عَاشت مدينة صنعاء خلال تلك الحقبة حِراكًا فكريًا وثقافيًا مَائزًا، بَرز فيه عددٌ من العلماء المُجتهدين، والمُجددين، كان العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني والعلامة محمد بن علي الشوكاني أبرزهم. وهو - أي ذلك الحراك - لم يكن في الأصل إلا امتدادًا لجهود العلامة محمد بن إبراهيم الوزير والعلامة الحسن بن أحمد الجلال والعلامة صالح بن مهدي المقبلي التنويرية والإصلاحية في آن.

كانت لجهود العلامة الصنعاني، ومن بعده العلامة الشوكاني، ألأثر الأبرز في تنامـي حراك صنعاء الفكري، كانا قريبين من الحكام، وأسهما - إلى حدٍّ ما - في تهذيب سلوكياتهم، وصناعة أحداث وصفت بالإيجابية، لم يحدث أنْ تكررت خلال تاريخ الإمامة السوداوي الطويل، وأدت بمجملها إلى حرف مسار تلك الدولة عن نهجها الكهنوتي العنصـري.

وقبل الغَوص في تفاصيل ذلك التحول، وجب التذكير بأنَّ أولئك العلماء المُجددين، نبذوا التقليد، وانتصـروا للعقل، وعملوا - بالتدريج - على إلغاء المذهب الديني الأيديولوجي الحامل للفكرة الإمامية، تلك الفكرة الراديكالية المُتطرفة، العابرة للأزمنة، والتي ما زلنا - جميعًا - نتلظى بجحيمها. وكانوا - أي أولئك العلماء - إلى مذهب أهل السنة والجماعة أقرب، وإلصاق تهمة اعتناقهم للمذهب الشيعي الزيدي الهادوي مُغالطة سمجة يسهل تفنيدها.

صحيح أنَّ كثيرًا من البَاحثين أجمعوا على أنَّ الزّيدِيّة من أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة، وأنَّهم استثنوا جماعة منها تسمى (الجارودية)، نسبوها لأبي الجارود زياد بن المنذر (ت: 150هــ، وقيل 160هـ)، أحد أصحاب الإمام زيد بن علي (ت: 122هـ) المُتعصبين، الذي وصفه المُحدثون بأنَّه كذاب وليس بثقة، والذي قال جعفر الصادق (ت: 148هـ) عنه: «لعنه الله، فإنَّه أعمى القلب، أعمى البصيرة». على اعتبار أنَّها - أي الجارودية - أقرب إلى غلو الاثنى عشـرية، وأنَّ الزيدي إذا تعصب يُسمى (جاروديًا).

إلا أنَّ ذلك الإجماع العاطفي سريعًا ما تبدد؛ خصوصًا عند الرجوع لتاريخ الإمامة الزيدية في اليمن، ومَصادرها المُتشعبة، وهذا الإمام الطاغية عَبْدالله بن حمزة (ت: 614هـ) قال في إحدى أطروحاته: «الزّيدِيّة هم الجارودية، ولا يعلم في الأئمة - عليهم السلام - من بعد زيد من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك». تبرأوا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنَّ الإمامة مقصورة في أولاد الحسن والحسين، وأوجبوا نصـرة من خرج منهم طالبًا الإمامة، مُستدلين بحديث ضعيف نُسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه، أكبه الله على وجهه في النار»!

جعلوا الإمامة أصلًا من أصول الدين؛ بل من أكبر مسائله، وقالوا: «إنَّها في الإمام علي، في النص الجلي»، ومن خالفهم حكموا عليه بالضلال والزيغ، وتبرأوا منه، واستحلوا حرمته، وامتنعوا عن الصلاة خلفه، حتى وإنْ وافقهم في غير ذلك من المسائل. وقد انتقدهم الإمام يحيى بن حمزة (ت: 749هـ) بقوله: «ليس أحد من فرق الزّيدِيّة أطول لسانًا، ولا أكثر تصـريحًا بالسوء في حق الصحابة من هذه الفرقة».

زيد بن علي كان يُجل ويرضي على الخلفاء الراشدين، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما سأله أنصاره عن رأيه في الشيخين أجاز خلافتهما، وذكرهما بخير، انفضوا - حينذاك - عنه، وفسخوا بيعته، فخاطبهم بقوله: «اذهبوا فانتم الرافضة». ومن هذا المُنطلق، فإنَّ الجاروديين، ومن بعدهم الهادويين، ليسوا زيدية؛ لأنَّهم لم يَعترفوا أصلًا بخلافة أبي بكر، وعُمر، ولا يجلوهما.

انحرف الطامح يحيى بن الحسين الرسي (ت: 298هـ) كثيرًا عن المذهب الزيدي، وتبنى النظرية الجارودية في الإمامة، لا تقليدًا لأبي الجارود، ولكن توافقًا معه في الأصول العامة. أصل - هو الآخر - لنظرية الاصطفاء الإلهي، وجعل الإمامة مُوازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصـرها بشقيها السياسي والديني في البطنيين، وجعل لها 14 شرطًا مُلزمًا.

وهو كما حَرَّم الاجتهاد في المسائل الأصولية، ومنها الإمامة؛ لأنَّها شرعية، ولا مجال فيها للدليل العقلي، أجازه في المسائل الأخرى، وعلى وجه الخصوص جزئية الخروج على الظلمة، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله لإقامة دولته الدينية، على اعتبار أنَّ حُكام الدولة العباسية (بني عمومته) ظلمـة، وكل حاكم ليس من البطنيين ظالم، واجب الخروج عليه.

وكما حُصـرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصـر ابن الحسين الإمامة في ذرية محمد صلى الله عليه وسلم - رغم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعقب - وقال: «فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى الله عليه، إلى أنْ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وعلى آله، فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبياء به».

وتبعًا لذلك، استدل بعدد من الأحاديث الموضوعة، وقال إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم، إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما، وعصبتهما»، في مُخالفة صريحة لقوله تعالى: «أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله»، وقوله تعالى: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليمًا».

وقال الطامح يحيى بن الحسين: إنَّ ورثة الكتاب في قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا»، هم: «محمد وعلي والحسن والحسين ومن أولدوه من الأخيار»! وأكد في موضع آخر: «يجب على المُكلف أنْ يعتقد أنَّ الإمامة في ذرية الحسن والحسين دون غيرهم، وأنَّ الإمام من بعدهما - من ذريتهما - من سار بسيرتهما، وكان مثلهما، واحتذى بحذوهما»، وأردف: «وتثبت الإمامة للإمام، وتجب له من الأنام فيمن كان من أولئك، فقد حكم الله له بذلك، رضي الخلق أم سخطوا»!

والأدهى والأَمَرُ من ذلك أنَّه حكم على أبي بكر وعمر بن الخطاب بالردة، وقال إنهما يستحقان حكم الإعدام، وزاد على ذلك بأنْ كفر جُموع المسلمين الذين لا يعتقدون تقديم علي بن أبي طالب عليهما! وقال في مقدمة كتابه (الأحكام): «إنَّ ولاية أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، لا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان، حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان».

الهادوية كمذهب لا تتعايش مع مُخالفيها إلا باعتبارهم تبعًا؛ بل تكفرهم ما داموا لا يخضعون لرؤيتها وتفسيرها الديني للكون والحياة، وحينما وجد الطامح يحيى تخاذلًا ورفضًا من قبل بعض القبائل اليمنية لدولته الكهنوتية، ومذهبه الإقصائي، كفرهم بالجُملة، وأعلن الجهاد عليهم.

لغَّم الطامح الرسي مذهبه العنصـري بعدد من الآيات القرآنية التي تُؤكد حقه في الحكم، فسـرها حسب هواه، وجاء بأحاديث تتصادم والنص القرآني، ومقاصد الشـريعة، ومنها مقولة: «إنَّ الإمامة في قريش»، «ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»!

حاشا على رسول الإنسانية وعدو التعصب أنْ يقول مثل هذا الكلام، وهو الذي انتقل إلى جوار مُرسله ولم يوص، تاركًا لأصحابه حرية اختيار من يحكمهم، على اعتبار أنَّ السياسة ومغباتها اجتهاد بشـري. كيف لا؟ وهو من خاطبهم ذات يوم بـ «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأنهى دوره بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا».

إنَّ إزالة المفاهيم الخاطئة ليست بالمهمة السهلة، ومن الإنصاف أن نُسمي الأمور بمسمياتها، وألّا نستسلم لتلك الهرطقات والأباطيل التي وضعها البعض، ولغموا بها ثقافتنا الجمعية، وأنْ نتفهم وجهة نظرهم الآنية، على اعتبار أنَّهم لم يطلعوا - بشكل مُكثف - على مُوروث الإمامة المُلغم، وتاريخها الأسود الآثم.

والحق يُقال: إنَّ ثقافة التعايش التي أراد هؤلاء العاطفيون الحالمون تكريسها، كانت ولا تزال، هدفًا نبيلًا، وقيمةً مُثلى، ولن نحيد عنها ما حيينا، ولكن بعد أن تُبنى على أسس صحيحة ومتينة.

وما هذه الدراسة إلا مُحاولة جريئة لتوضيح تلك الأسس، وخارطة طريق مُلهمة، حاولت من خلالها توثيق مرحلة مهمة من تاريخ اليمن السياسي والفكري، وإنصاف رجال واجهوا ظلام الكراهية بنور الحب، وقدموا أنموذجًا إصلاحيًا واعيًا، سعى إلى تحرير الدين الإسلامـي الحنيف من سُلطة الكهنوت، والعقل من هيمنة التقليد، والإنسان من لوثة العنصـرية، وأثبتوا - وهو الأهم - أنَّ التجديد ضرورة تاريخية لا رفاهية.

*كتاب علماء صنعاء المجددون - مقدمة المؤلف

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق