نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: أقصوصة الأربعاء.. الصياد في الغابة الإسمنتية - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025 11:39 مساءً
يخرج في رحلته اليومية لاقتناص الكلام، متسلحاً بمقلاع الابتسامات والتعليقات الفكاهية، ومتمنطقاً سكيناً قاطعة من الأزمات المختلقة والأسئلة التي يعرف أجوبتها سلفاً.
يزمّر لعامل الكافتيريا، والذي بدوره يترجم نداء بوق السيارة الفظ ليعني كوب الشاي بالحليب الصباحي. يحرص على الدفع بورقة نقدية من فئة الخمسة أو العشرة ليضمن رجوع العامل بالفكة، وبينما يشرع الأخير في عدّ العملات المعدنية واحدة تلو الأخرى لتفادي الخطأ، تغريه راحة الصياد المبسوطة له عبر النافذة. يقترب بالأحاديث والدردشات.
يخبر الصياد عما درس بالأمس في المحاضرات الجامعية المسائية التي يرتادها، يخبره عن تطورات زفاف أخته في قريته النائية، يخبره عن الشجار الذي نشب للتو بينه وبين مديره. ولكن الصياد لا يشبع على الرغم من فطوره المعتبر.
يستنهض رقم البلدية المخزّن في هاتفه. يقدم شكوىً جديدةً؛ عن عمود الإنارة المشتعل تحت وهج الشمس، أو عن اضمحلال الخط الأبيض على إسفلت الشارع، أو عن القيادة المتسرّعة لسائق أجرة يقتله ضغط تحقيق العمولة. يبتسم الصياد عند إنهاء المكالمة، مدركاً أن موظفة البلدية المسكينة مرغمة على إعادة الاتصال به في خلال سويعات لتبشّره بمتابعة طلبه، وحل مشكلته المؤرقة.
يصل إلى السوبرماركت، حيث يتبضع بوتيرةٍ يوميةٍ إذ يرفض ابتياع احتياجاته دفعة واحدة. يضم الغرض اليتيم إلى صدره ويجوب الأروقة، حيث اعتاد أن يبحث عن «وجبة خفيفة سريعة» يجدد بها نشاطه. قد تكون متسوقاً ساهياً يصدم مؤخرته بعربته، أو متسوقة تجاهد لاقتلاع صغيرها من ثلاجة المشروبات الغازية، أو زوجين «يطبّلان» على البطيخ في قسم الخضراوات.
«لا أنصحكِ»، يوسوس كالشيطان الرجيم. تلتفت الضحية المتفاجئة، فيشهر لها أنياباً من الدماثة وحسن الخلق، «هذا الصنف من الشامبو بالكاد ينظّف الشعر، ناهيك عن إزالة القشرة».
يتضاحك الطرفان؛ المُتطفِّل والمُتطفَل عليه. ويسهب هو في سرد قصته، كيف أُصيب بالقشرة، وكم عانى للتخلص منها، وكيف تغلّب عليها وأخيراً بمساعدة عطّار مغمور في السوق القديم. وكيف أنه سيشرّفه أن يتصّل بالضحية ليدلّها على عنوان محل العطارة متى ما تذكره.
يفرغ من التسوق، فيبرز له في الأفق قطيعٌ شاغرٌ من أجهزة الدفع الذاتي، والتي كانت تقف في خمولٍ ودعةٍ في انتظار افتراسه لها. إلا أن الصياد يختار المثول أمام عامل الصندوق، فليس متهوراً بالقدر الكافي للتضحية بالوجبة الأهم في نهاره.
ستسقط الدقيقة ونصف الدقيقة المقبلة عند قدميه كالطريدة الهامدة، وسيتعين عليه الارتجال في اقتطاع الأجزاء الأدسم والأشهى منها. الحركة الأجدى ستكون بالتعليق على الأوضاع السياسية، فوالد عامل الصندوق كان قد استشهد في الحرب في بلاده، أو ربما بسرد نظريات المؤامرة عن تزييف الهبوط على القمر.
أحياناً، يداهم الصياد الكسل، فيفضّل انتقاد جودة المنتجات في السوبرماركت، أو ارتفاع الأسعار. وأحياناً، يسمح لنفسه بالإبداع والتجلي، فيعلّق عامل الصندوق من سقف ثرثرته، ويركض لجلب كيسٍ من الخبز، أو كأسٍ من الجبن.
الحمد لله، دائماً ما يخلد الصياد إلى فراشه متخماً. يسلّك أسنانه برضىً غير آبهٍ بتسوّسها لكثرة ما تناول من الأصناف الحلوة في طريق العودة إلى المنزل، فدردش مع البائعات في الأكشاك، وتظارف مع الصبي المتسول، وتظاهر بأنه تائه أمام شرطي المرور، والذي لم يجد مفراً من أن يصف له المدينة بأكملها.
يغرس رأسه في المخدة آملاً في ليلة هانئة، بيد أنه توقظه حركة دؤوبة ومؤلمة في أحشائه. يتصبب عرقاً، ويهرع عقله بسرعة ألف كيلومتر في الساعة بين الذكريات، متسائلاً فيما إذا كانت الأحاديث التي اقتنصها على مدار اليوم صالحة للاستهلاك.
يباعد بين شفتيه لا شعورياً، وكأنما سيقاطع الصديقين المتجادلين أمامه في الطابور المؤدي إلى السينما ليصطف إلى أحدهما على حساب الآخر، ويقرر بأن أفلام الكوميديا أمتع بالفعل من أفلام الرعب.
ولكن عوضاً عن الكلمات الفارغة، يزحف خارجاً من جوفه يقينه الدائم بالطفيلية والثقل. يتلوى الشعور السادي في حنجرته الضيقة؛ ذلك الشعور الحتمي بأنه مرفوضٌ، مكروهٌ، لا يُتحمّل إلا على مضض. ثم يتزحلق، لزجاً بطيئاً ساخناً، على لسانه.
يغمى على الصياد، ولا يستيقظ إلا فاقداً للذاكرة. كل ما يعرفه هو أنه يحس بجوعٍ دفينٍ للثرثرة، جوعٍ يدفعه إلى أن يقفز من على سريره بهمةٍ وخفة.
0 تعليق