تأملات في واقع امتحانات البكالوريا والتحديات التربوية المرتبطة بها - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: تأملات في واقع امتحانات البكالوريا والتحديات التربوية المرتبطة بها - تليجراف الخليج اليوم الاثنين 9 يونيو 2025 09:27 مساءً

تُعد امتحانات البكالوريا محطة مفصلية في المسار الدراسي للتلاميذ/ت، حيث تمثل مرحلة انتقالية نحو التعليم العالي أو التكوين المهني، كما تحمل، من وجهة نظر الأسر، دلالة قوية على النجاح والاعتراف الاجتماعي والتربوي. غير أن الملاحظ من خلال تتبع ارتسامات التلاميذ عبر مواقع الجرائد الإلكترونية، هو اتفاقهم على سهولة مواضيع الاختبارات رغم إخفاق العديد منهم في الإجابة عنها، ولجوء أغلبهم للغش كوسيلة للحصول على البكالوريا.

هذه المفارقة تعكس بوضوح أزمة عميقة في منظومة التعليم، حيث لم يعد المشكل مرتبطًا بصعوبة المواضيع، وإنما في ضعف مستوى التحصيل، وافتقاد عدد كبير من التلاميذ/ت للكفايات الضرورية التي تؤهلهم لاجتياز هذا الاستحقاق الوطني بنجاح. وهو ما يطرح أسئلة مقلقة حول جدوى هذه الامتحانات في ظل تراجع مردودية المدرسة وضعف التحصيل الدراسي.

لقد بات من الواضح أن جزءًا مهما من تلاميذ/ت التعليم الثانوي التأهيلي يعانون من تعثرات بنيوية تمتد من المراحل الدراسية الأولى، وتشمل صعوبات في التعبير الشفهي والكتابي، ضعف في الفهم والتحليل، وعجز في القيام بالعمليات الذهنية البسيطة والمركبة، وهي مشاكل لا يمكن تداركها ضمن حصص دعم محدودة المدة أو حلول ترقيعية في السنوات النهائية من التعليم الثانوي. هذا التدهور الملحوظ في المستوى يزداد حدة في ظل انعدام تكافؤ الفرص، حيث تختلف بيئة التعلم بين التلميذ المنتمي إلى وسط حضري ميسور، يستفيد من دعم أسري ومواكبة تربوية ودروس دعم مؤدا عنها، وبين التلميذ المنتمي إلى أوساط هامشية أو قروية يفتقر إلى نفس الموارد والإمكانيات.

وفي هذا الإطار، لا يُمكن اعتبار امتحانات البكالوريا الحالية منصفة للجميع، لأن ظروف الإعداد والتهييء ليست متكافئة. بالإضافة إلى أن الصيغة الحالية لنظام التقويم في الثانوي التأهيلي، الذي يرتكز على مرحلتين أساسيتين: الامتحان الجهوي في السنة الأولى من سلك البكالوريا، والامتحان الوطني في السنة الثانية. غير أن الامتحان الجهوي، الذي يحتسب بنسبة 25% من المعدل العام، يركز على مواد ذات طابع أدبي، حتى بالنسبة لتلاميذ الشعب العلمية، ما يجعل الإخفاق فيه حاجزًا نفسيًا وعائقًا تربويا أمام استكمال السنة الثانية الموالية. وفي كثير من الحالات، يؤدي هذا النظام، بالنسبة للتلاميذ غير الحاصلين على المعدل بالامتحان الجهوي، إلى الإحباط المبكر والشعور بعدم الثقة، يدفع عددًا منهم إلى الانسحاب الرمزي من مسارهم الدراسي رغم تواجدهم داخل الفصول الدراسية.

ومن غير المعقول أن تلاميذ المسارات العلمية يُلزمون باجتياز مواد لا تنتمي إلى تخصصهم وتُحتسب بشكل حاسم ضمن معدل البكالوريا، في حين أن المواد الأدبية يمكن أن تُحتسب في إطار المراقبة المستمرة فقط. هذا الخلل في بنية التقويم يحتاج إلى مراجعة شاملة تراعي التخصصات وتضمن العدالة في التقييم.

ويزداد الوضع تعقيدًا عندما نُضيف إشكالية التوجيه القصري الذي تم بالسنوات الماضية نحو الشعب العلمية خيار فرنسية، رغم أن عددًا كبيرًا من التلاميذ لا يمتلكون الحد الأدنى من الكفايات اللغوية لمسايرة التعلم باللغة الفرنسية. هذا التوجيه المفروض يؤدي إلى فجوة بين لغة التلميذ الأصلية ولغة التدريس، ويضعف من قدرته على فهم المضامين والتفاعل معها، مما ينعكس سلبًا على نتائجه الدراسية وعلى ثقته بنفسه، ويزيد من الشعور بالاغتراب داخل الفصول الدراسية.

وفي ظل هذا السياق، تبرز أهمية التوجيه المدرسي بوصفه آلية أساسية لضمان التلاؤم بين قدرات المتعلم، ميولاته، واختياراته الدراسية. لكن واقع الحال يُظهر ضعفًا كبيرًا في حصص المواكبة التربوية، التي لا تُفعل بالشكل الكافي لمساعدة التلاميذ على بناء مشروعهم الشخصي، والتخطيط لمسارهم الأكاديمي أو المهني بشكل واعٍ. فلو تم تفعيل حصص المواكبة التربوية بشكل مبكر، لتمكنا من توجيه التلاميذ ذوي الصعوبات الحقيقية نحو مسارات مهنية مناسبة، عوض إغراقهم في مسارات نظرية لا توافق ميولاتهم ولا مؤهلاتهم.

ويُعزز من هذا الطرح غياب التكوين المهني كمكون فاعل داخل المشهد التربوي بالثانويات، حيث لا تقوم مؤسسات التكوين المهني بأدوار إعلامية توجيهية كافية داخل المؤسسات التعليمية للتعريف بمساراتها وآفاقها. ورغم أن التكوين المهني أصبح مسارًا استراتيجيًا في السياسات التنموية للمغرب، خاصة في ظل تشجيع الدولة للمقاولات الصغيرة والمتوسطة، والانفتاح على المجال الصناعي والخدماتي، فإن التلاميذ يفتقرون إلى المعطيات الضرورية، ولا يتلقون التوجيه الكافي للاستفادة من هذا العرض التكويني.

إن تعزيز الارتباط بين المؤسسات التعليمية ومؤسسات التكوين المهني، والرفع من عدد مقاعد هذه الأخيرة، وربط الشعب الدراسية بمسارات تكوين مهني واضحة، سيساهم في احتواء الأعداد الكبيرة من التلاميذ الذين لا ينسجمون مع المسارات الأكاديمية، ويفتح لهم آفاقًا جديدة للاندماج الاقتصادي والاجتماعي. كما أن شهادة البكالوريا، حتى وإن كانت رمزية في بعض الحالات، تُشكل عاملًا مهمًا في الحفاظ على تماسك التلميذ النفسي والاجتماعي، وتمنحه فرصة للعبور نحو مسار جديد بدل الإقصاء من المنظومة التعليمية بشكل نهائي.

إن الوضع الحالي يفرض مراجعة شاملة لأهداف التعليم الثانوي، بحيث لا تبقى البكالوريا غاية في حد ذاتها، بل محطة ضمن مشروع شخصي واضح ومخطط له، يتم فيه تكييف التقويم، وتفعيل التوجيه، وضمان تكافؤ الفرص، بما يضمن تعليمًا منصفًا، ذا جودة، وقادرًا على ربط المدرسة بالحياة، والمعرفة بسوق الشغل، والطموح بالواقع. إنها مسؤولية جماعية تتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية تربوية متكاملة تجعل من المتعلم محورًا لكل إصلاح.

 

 

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق